توتر غير تقليدي عبر الباسفيك
إستراتيجيًا وتاريخيًا يأتي الخطر األســاس على أمـن الـواليـات غربًا من املحيط الهادي، وليس كما يعتقد شرقًا، املحيط األطلسي. أيضًا: تـاريـخـيـًا وإســتــراتــيــجــيــًا، واجــهــت الـــواليـــات املــتــحــدة خــطــرًا حقيقيًا، على أمنها من جبهة الباسفيك، مقارنة من جبهة األطلسي، من حيث قدرتها على التصدي للتهديدات األمنية، وكذا إستراتيجيتها الدفاعية لخوض معارك كبرى، على الجبهتني. في الحربني األولـى والثانية استطاعت الواليات املتحدة اختراق جبهة األطلسي، حيث حسمت مصير الـحـربـني، على املـسـرح األوروبــــي، بينما فـي الـحـرب العاملية الثانية لم تتمكن من حسم معركة الباسفيك، ضد اليابان، إال باستخدام السالح النووي.. وظلت جبهة الباسفيك عصية عليها، وسهلة الختراق خصومها الدوليني، إستراتيجيًا وأيديولوجيا، حتى بعد ثالثة عقود من الحرب الكونية الثانية. لقد اسـتـمـرت الــواليــات املـتـحـدة فــي شــن حــروب تقليدية مــحــدودة فــي كــوريــا وفيتنام والهند الصينية 1950( - ،)1975 في الوقت الــذي واصلت فيه الـواليـات املتحدة خوض حرب أيديولوجية باردة، مع الصني، حتى اعترفت واشنطن ببكني (الصني الشعبية الشيوعية) يوليو .1980 لـيـس عـلـى املـسـتـوى االسـتـراتـيـجـي فـحـسـب، أيــضــًا: اسـتـمـر قـلـق الــواليــات املتحدة مــن جبهة الـبـاسـفـيـك، اقـتـصـاديـًا وتــجــاريــًا، بــوجــود عـمـالقـني اقـتـصـاديـني، يقترب اقتصادهما من حجم االقتصاد األمريكي، ويتعدى ذلك الخاص باالتحاد األوروبي أال وهــمــا: اقــتــصــاديــات الــصــني والــيــابــان، بــاإلضــافــة القــتــصــاد كــوريــا الجنوبية واقتصاديات الدول الناشئة في منظمة اآلسيان. هـذه األيــام يتجدد هاجس الـواليـات املتحدة األمني من جبهة الباسفيك، بصورة خطيرة، وبصورة غير تقليدية، تحمل في طياتها خطرا إستراتيجيًا ناجزًا، على أمــن الــواليــات املــتــحــدة... بـل وعـلـى ســالم الـعـالـم وأمــنــه، كما فـي حــال تـطـور األزمة «النووية» غرب الباسفيك، بني الواليات املتحدة وكوريا الشمالية. لقد تصاعدت حدة التراشق الدبلوماسي واإلعالمي بني واشنطن وبيونغ يانغ، لدرجة التهديد املـبـاشـر بـاسـتـخـدام الـسـالح الــنــووي عبر الباسفيك، ألول مــرة، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية. خطورة األزمة الحالية بني الواليات املتحدة وكوريا الشمالية تكمن في عامل عدم االستقرار غير التقليدي، الذي يجري التهديد باستخدامه، بصورة لم تحدث - بهذا الوضوح املباشر - حتى في أوج توتر املواقف الساخنة في الحرب الباردة، بما فيها أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا 14( - 28 أكتوبر .)1962 من الصعب، في حالة األزمـة غير التقليدية الحالية بني الواليات املتحدة وكوريا الشمالية التعويل على معادلة الــردع التقليدية، التي كانت تحكم مـيـزان الرعب النووي أثناء فترة الحرب الـبـاردة بني الـواليـات املتحدة واالتـحـاد السوفيتي. من أهــم عـوامـل عــدم االسـتـقـرار فـي األزمــة الحالية، االفتقار لـوجـود ندية حقيقية بني طرفي الــصــراع، هــذا عامل عــدم استقرار حقيقي وخطير، تفوق الــواليــات املتحدة اإلستراتيجي الساحق في األسلحة اإلستراتيجية، يمكن أن يدفعها لتبني عقيدة الضربة األولــى، وهـو أمـر لم تتمكن من اعتناقه ضد االتحاد السوفيتي، في فترة الحرب الباردة. مـن ناحية كـوريـا الشمالية، ال يمكن توقع سلوك قيادتها «الـنـزقـة» فـي التصرف بعقالنية وحكمة مع ما تمتلكه من إمكانات إستراتيجية غير تقليدية، يمكن أن تصل في تهديدها إلى مناطق في عمق الواليات املتحدة، حتى شرق البالد، حيث مؤسسات الحكم وقالع الواليات املتحدة االقتصادية العمالقة. كما أن مما يزيد من خطورة عـدم االستقرار في األزمــة الحالية االفتقار لوجود قنوات اتصال مباشرة بني الطرفني للحؤول دون احتماالت االستخدام املتبادل للسالح النووي، ولو عن طريق الخطأ. باإلضافة إلى أنه ال يوجد أي اتفاق ضمني أو صريح بني الطرفني بعدم اإلقدام على التفكير في احتماالت مواجهة نووية بينهما، من حيث املبدأ.. وال حتى تجنب االنجرار إلى تردي وضع العالقات بينهما، لدرجة تصاعد احتماالت املواجهة املباشرة بينهما، ولو بمستويات الحرب املحدودة التقليدية. كما أن هناك خطورة إقحام أجندات داخلية، استغالال لألزمة. الرئيس ترمب يمكن أن يلجأ للتصعيد عسكريًا، هروبًا من مشاكل داخلية تواجهها إدارته، وربما تتطور لتطال مصير واليته. الرئيس الكوري (كم جونغ أون)، ممكن يتوصل إلى قناعة، تحت ضغط العقوبات االقتصادية الخانقة املفروضة على بـالده، استغالل األزمة واملـضـي فـي إستراتيجيته التصعيدية، غير عابئ بخطورة التفكير فـي احتمال استخدامه لترسانة بــالده الـنـوويـة.. وربـمـا تطور الثقة لديه المتصاص الضربة األولى، سواء كانت تقليدية أو نووية، والرد بضربة ثانية مدمرة سواء ضد الواليات املتحدة أو أحد حلفائها في املنطقة، بالذات كوريا الجنوبية واليابان. املشكلة في األزمة الحالية أن العالم ال زال يفكر بعقلية نظام الحرب الباردة.. وبجدارة ميزان الرعب النووي التقليدي.. ليصل إلى قناعة بعدم تطور األزمة إلى احتماالت استخدام اإلمكانات اإلستراتيجية املهلكة، لدى الطرفني. العالم، في حقيقة األمر ال يلتفت لعوامل عدم االستقرار غير التقليدية، التي تتحكم في «ميكانيكية» األزمة، وربما تدفع أطرافها لسلوكيات غير مسؤولة، سـواء بـاإلفـراط في الثقة.. أو تطور شكل من أشكال السلوك اليائس تدفع الطرف األضعف لسلوك انتحاري، بالشعور بأنه ليس هناك ما يخسره، طاملا ال يتراء ى له عن بعد ضوء في نهاية النفق. خطورة األزمة الحالية بني واشنطن وبيونغ يانغ تكمن في عوامل عدم االستقرار التي تتحكم في حركتها.. وتلك النظرة التحليلية واملنهجية التقليدية التي تنظر إليها بعقالنية النظر لتجربة الحرب الباردة.. والركون إلى فكرة تقليدية، ال يمكن تطبيق تصورها لتفسير األزمة الحالية، بزعم: استحالة استخدام السالح النووي، بصورة مطلقة، استدالال، بتجربة نظام الحرب الباردة.. وإمكانات الردع «املطلقة» الكامنة في معادلة توازن الرعب النووي التقليدية.