احلديث مع املوتى!
من اللحظة التي نستيقظ فيها كل صباح إلى الوقت الـــذي نــعــود فـيـه إلــى مـخـادعـنـا ننتقل مــن مــكــان إلى آخــــــر.. نــحــمــل مــعــنــا أشـــيـــاء نـعـتـقـد أنــنــا ال نستطيع الـتـخـلـي عــنــهــا.. مــســتــنــدات.. هــواتــف مــحــمــولــة.. آيـــبـــاد.. كمبيوتر شخصي.. شاحن لكل جهاز.. نحمل حقائب على أكتافنا وأخرى في جيوبنا وسلسلة مفاتيح كثيرة قد ال نحتاج منها سوى على مفتاح أو اثنني ال أكـثـر.. نحرص على مــلء هواتفنا بالعديد من تطبيقات املهمات كي ننجز أعمالنا اليومية وكي نشعر بالرضى عن إنتاجنا.. ثم نترك أماكن أعمالنا بعد انقضاء يوم عمل مرهق شاق، ممنني النفس بقضاء أمسية تليق بكل ذلك التعب.. نوع من الهروب إلى الفردوس.. ننتقل بأجسادنا املثقلة بالقلق والهواجس والـخـوف واألحــام واألمنيات والتوقعات والطموح نفر بها إلى مكان يشعرنا بشيء من الـراحـة الجسدية والنفسية.. لعلنا نجد في هذا املكان الشبكة التي تنقذنا في األسفل إن سقطنا من تعب لهاثنا اليومي من على حبل الحياة الرفيع املعلق.. أفعل ذلك مثل بقية الجياد البشرية في أحيانًا كثيرة.. كمن يطوي خيمة ويقفز إلـى قطار وبـيـداء حياة جديدة في مدينة أخــرى هربًا من الوجع اليومي.. وأنــت تمضي بعربتك للمكان الــذي اخترته تعدل املرآة الجانبية للعربة، تتمنى أن تلمع عيناك وأنت على الطريق ببارقة أمل أن تحظى بأمسية مفتوحة على مساء أكثر انفساحًا.. أمسية قد تكون مضادًا حيويًا يمنع تفاقم الروح وما تركت فيك عواصف الــوقــت مــن أخــاديــد.. مـسـافـة مفتوحة عـلـى مـــروج الــبــوح األبيض وسهول املسرة.. تمارس كينونتك فيها كبشر بجمال وتعيد لنفسك صفاءها ولـروحـك طموحها وتوقعاتها ولقلبك أحـامـه.. إال أنه أحيانًا تحس ما أن تصل املكان والـذي سعيت إليه طلبًا للبهجة بأن نقطة خاطئة من الزمن جعلتك تلتقي وأنـت شاب في مقتبل العمر بامرأة مسنة في نهاية حياتها وتحاول أن تقنع نفسك أنكما تنتميان إلــى بعضكما الـبـعـض.. جلسة تـعـج بـالـيـأس واملعاناة واإلحباط واجترار املاضي يتزايد فيها «االنـدروفـني» وتنخفض فيها هرمونات البهجة والسعادة.. مجموعة متشائمة من أولئك الـذيـن إن قلت لهم ستتجاوز هــذه البلد املشكلة.. يــرد عليك أحد املـصـابـني «بـالـشـيـنـروفـريـنـا» مــن الـحـضـور، وهــو مــن يـفـتـرض أن يكمل حياته في مستشفى األمل لكن بعض هذه املصحات عندما تــصــاب بـعـجـز فــي األســــرة املــتــاحــة تـطـلـق بـعـض رعــايــاهــا بحجة أنهم ال يشكلون خطرا على أحد ليجيبك على الفور.. وماذا لو لم تـتـجـاوزهـا!! أو يتحدث أحـدهـم كيف حضر حفل زفــاف باألمس وهو يفكر أن العروسني سيتطلقان في أقل من سنة.. مجموعة أغلب أفرادها ال يملكون سوى النظر إلى صورهم القديمة دائمًا ألنهم يعتقدون بـأن أفضل أيامهم أصبحت وراءهـــم.. كنت أقضي وقتًا مريعًا معهم وأنا أستمع لهم يسرفون في تذكر أشياء امتلكوها ذات يوم وغادرت.. يعيشون مع أشباح املاضي أكثر من الازم يذكرونك باملصريني القدماء الذين يحنطون قططهم املفضلة لتدفن معهم.. جلسة كلما امــتــدت تـــزداد ضيقًا واخــتــنــاقــًا.. خـنـدق فـكـري يزداد الــوقــت فـيـه بــالــبــادة والــثــقــل ويـصـبـح الــحــديــث دمـــا يـنـمـو على ضفاف القلب.. كنت أردد سأكون غبيًا لو فكرت أن أستمر في تغير مجرى الحديث أو إضافة أي جديد للنقاش العثماني املتعاقب، فمن العبث أن تـهـدي ألحـدهـم فـواصـل كـتـاب وهــو ال يـقـرأ أصا.. قــررت فـي النهاية أن أصــوم عـن الـكـام وأبتسم للجميع فـي عبط وأنغلق على ذاتي كصدفة مخمرة وأكتفي بتعطير املجلس ببرفان دخان غليوني متحسسًا برواق توترات تتجمع منتهية لاشتعال في حنايا القلب.. وأقضم بأسناني ما تبقى قابا للقضم من أظافر يدي متظاهرًا باالستماع.. إنه من املحير واملخجل أن أتحدث عن أمسية ذهبت إليها بمحض إرادتي بهذه الطريقة.. لكنها الحقيقة الوحيدة.. وأنا مضطر لقولها.. لقد كنا مجموعة في بيت واحد.. في مدينة واحدة.. تحت سقف واحد.. منفصلني !