أمهات حائرات وأبناء ينتظرون التجنيس
فــوجــئــت بــكــثــرة الــتــعــلــيــقــات اإليــجــابــيــة املـــؤيـــدة ملقال األســبــوع املـاضـي الــذي كــان عـنـوانـه (أولــويــات مجلس الــشــورى.. مــن يــحــددهــا؟)، والـــذي ناقشت فيه إمكانية رفع كفاء ة أداء املجلس، ورغم أنني أوردت في املقال 11 نموذجًا مللفات شورية ملحة ومؤجلة، فقد استأثرت 3 منها على النصيب األكبر من التعليقات؛ امللف األول هـو تعديل املــادة 77 التي سبق أن (أشبعتها كــتــابــة)، واملــلــف الــثــانــي هــو مـعـالـجـة عــجــز صــنــاديــق الــتــقــاعــد (التي تناولتها فـي عــدة مــقــاالت)، أمــا الثالث (الــذي كتبت عنه مقاال واحدا فقط) فهو «تحديث» نظام الجنسية؛ باعتباره القانون األكثر التصاقًا باملواطنة واستحقاقاتها. ووفـــقـــًا لــتــغــريــدة (جـــوابـــيـــة) نــشــرتــهــا مــؤخــرًاعــضــو مــجــلــس الشورى الدكتورة لطيفة الشعالن؛ فإن اللجنة األمنية باملجلس أوصت (منذ زمن طويل) بمالء مة دراسة ملف تجنيس أبناء املواطنات «املتزوجات بغير سعوديني» لكن املجلس (وضع امللف في الدرج لسبب غير واضح!). في حني وصلتني بعد نشر املقال مئات الرسائل من أمهات وأبناء يأملون فيها أن أكـتـب مــجــددًا عــن معاناتهم مــع نـظـام الجنسية؛ الـــذي يحرم غالبية أولئك األبناء من إمكانية حصولهم على جنسية أمهاتهم. واألكـيـد أن قــرار الـدولـة بمنح جنسيتها ملن تشاء، هو أمـر سيادي في الــدرجــة األولــــى، إال أن مـلـف تجنيس أبــنــاء املــواطــنــات أصــبــح قضية إنسانية بامتياز، فضال عن تحوله إلشكالية وطنية متزايدة؛ تحتاج لحل جذري؛ وال بأس أن يكون متدرجًا؛ يسهل حصولهم على الجنسية بعيدًا عن الشروط املعقدة التي يصعب على الكثيرين منهم الوفاء بها، ويفيد البلد بطاقاتهم؛ بعد أن يساويهم بأقرانهم من أبناء السعوديني املـتـزوجـني بأجنبيات، لذلك فمن مصلحتنا املـسـارعـة لحل هــذا امللف الذي له بعداه (الدستوري) و(التمييزي) أيضًا؛ لأسباب التالية: .1 أن عـدم منح الجنسية ألبناء أولئك املواطنات يتعارض مع النظام األساسي للحكم؛ الذي يؤكد على العدل واملساواة بني املواطنني (رجاال ونساء)، في حني أن نظام الجنسية يعطي ألبناء املواطنني (املتزوجني بـأجـنـبـيـات) حـقـوقـًا أكـثـر مــن أبــنــاء املــواطــنــات (املــتــزوجــات بأجانب)؛ وهوما ينطوي -برأيي- على تمييز (جنسي). .2 أن زيادة عدد املواطنات املتزوجات بغير سعوديني، مع عدم تحديث نــظــام الـجـنـسـيـة، سـيـفـاقـم املـشـكـلـة؛ إذ يــقــدر عــددهــن بـنـحـو 800 ألف مواطنة؛ يشكلن %12 من األمهات السعوديات، وبالتالي فاملوضوع ليس مقتصرا على حاالت فردية بل يمس شريحة واسعة من املواطنات. .3 أن وجود صالت قوية تربط أولئك البنات واألبناء باململكة؛ ينبغي أن يشفع لهم للحصول على الجنسية، ومن أبرز تلك الروابط (حق الدم) مـن جهة األم، و(حــق املـيـالد) فـي اململكة، فضال عـن أن حصول بعض (أشــقــائــهــم) عـلـى الجنسية فــي وقـــت ســابــق!، قــد أخـــل بــوحــدة جنسية األسرة. .4 أن أولئك املحرومني هم نتاج زيجات شرعية ونظامية (مختلطة)؛ وافقت عليها الدولة التي كان بمقدورها أن ترفضها، ملا سينجم عنها من أوضاع قانونية وشرعية وأسرية؛ ال تتوقف عند املطالبة بالجنسية، بل تتعداها للعديد من الحقوق اإلنسانية األخرى. .5 أن الكثير من تلك الزيجات تمت في ظل نظام الجنسية الـذي كانت شـــروط التجنيس فيه معقولة سـابـقـًا، ليتم الحـقـًا إضــافــة اشتراطات جــديــدة؛ يستحيل على الغالبية الــوفــاء ببعضها؛ وحـتـى لـو انطبقت الشروط على البعض، فإن املادة النظامية (جوازية)؛ بمعنى أن انطباق الشروط ال يعني منح الجنسية تلقائيًا وإنما املضي في دراســة طلب التجنيس فقط. وقــد يــقــول قــائــل إن األبــنــاء يـجـب أن يـلـحـقـوا بـآبـائـهـم، وهـــذا صحيح ولكنه يختص بالنسب، أمـا الجنسية فليس هناك مسوغ شرعي -في تقديري- لحرمانهم منها؛ خصوصًا إذا ترتب على ذلك حرمانهم من حقوق (شرعية) كاإلرث من األم، أو (مالية) كالحق في تقاعد أمهاتهم بعد وفاتهن، أو (إنسانية) كصعوبة حصولهم على التعليم والعمل والـعـالج (رغــم التوجيهات الـصـادرة بهذا الـشـأن)، هـذا فضال عن أننا نتحدث هنا عن (أبناء مواطنات) وليس عن وافدين استقروا في البالد لسنوات قبل أن يتطلعوا لتجنيسهم. يــضــاف لـكـل مــا تــقــدم أنــنــا الــدولــة الــتــي تـتـصـدر الــعــالــم اإلســالمــي في تطبيق الشريعة الغراء الحافلة بالقيم السامية واملبادئ اإلنسانية؛ ومن أهمها صلة الـرحـم، فضال عن محدودية عـدد السكان السعوديني؛ مع اتساع رقعة اململكة جغرافيًا، وحاجتها املاسة لأيدي العاملة الوطنية في شتى املجاالت، وبالتأكيد فإن أبناء أولئك املواطنات هم أحق بفرص العمل من العمالة الوافدة؛ خصوصا ذات الطابع التقني واملهني الذي يجيده نسبة جـيـدة مـن أولـئـك األبــنــاء؛ وهــو مـا قـد يغنينا عـن بعض نظرائهم الوافدين. وامللفت في األمر هو تصاعد النبرة العنصرية في تعليقات عدد غير قليل من املغردين الرافضني ملطلب التجنيس، إذ ال يكتفون بالتعبير عن وجهات نظرهم بـ (تهذيب)، بل يصر بعضهم على استخدام تعابير ومفردات جارحة!؛ متجاهلني الدالالت واملعاني املستفادة من الحديث الشريف الـذي قـال فيه الرسول عليه الصالة والسالم «ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه»، ألنهم لو كانوا مكان أبناء أولئك املواطنات، لشعروا باملهانة واملعاناة، وتمنوا أن يتفهم (العنصريون) وجهات نظرهم. ونظرًا لتعقيد هذا امللف وتأثيره على استقرار ومعيشة ودخـل مئات آالف األسـر التي تضم ماليني األفــراد، فقد يكون من املهم إدراجــه على سلم األولويات الوطنية، بدءا بفتح النقاش بشأنه في مجلس الشورى قريبًا. وهنا بعض التصورات األولية (املتدرجة) لحل مشكلة التجنيس، وتشمل ما يلي: .1 (بداية) يتم منحهم جــوازات سفر سعودية وإقامات مفتوحة (على كفالة الدولة) ولفترة معلومة؛ يسمح لهم خاللها بممارسة كل الحقوق املكفولة للمواطنني وإلزامهم بكافة واجبات املواطنة. .2 يــــدرس الـــشـــورى الحــقــًا تــحــديــث نــظــام الـجـنـسـيـة وكـــافـــة التبعات املترتبة على تجنيسهم؛ بعد تقييم كافة الجوانب األمنية والقانونية واالقتصادية لذلك. .3 ضــرورة تضمني نظام الجنسية (املـحـدث) ما يفيد سحب الجنسية فــورًا ممن يرتكب منهم جـرائـم أو يسيء للبالد، إضـافـة لترحيله بعد انتهاء عقوبته. ختامًا، أرجو أن ال يتأخر مجلس الشورى في نفض الغبارالكثيف عن هذا امللف الحيوي الذي يالمس وترًا شرعيًا ووطنيًا وإنسانيًا حساسًا؛ وأن يـعـجـل مجلسنا املــوقــر فــي إعـــادة األمـــل إلــى قـلـوب عــدد كبير من أمهاتنا وأخـواتـنـا وبناتنا املــواطــنــات؛ الـالتـي يتطلعن ملكرمة تنهي معاناتهن وتطمئنهن على مستقبل أولئك البنات واألبناء.