Okaz

التخويف من العلمانية

- يحيى األمير yameer33@ hotmail.com

في مقطع فيديو طريف ومتداول تقوم إحدى القنوات بإجراء لقاءات عابرة في شارع عام بالرياض، يستوقف املراسل املارة ليسألهم: هل أنت علماني؟ ما تعريف العلمانية؟ املقطع الشهير ال يحمل أية إجابات على اإلطالق بل يحمل إجابات طريفة ومضحكة للغاية (من أشهرها ذاك الذي يجيب: العلمانيني هم اللي عاشوا في العصر العلماني). الجامع بني كل تلك اإلجابات هو أمران اثنان: الخوف املطلق من العلمانية، والرفض املطلق كذلك. كان هذا املقطع أول مادة أعدت البحث عنها بعد أن قرأت مقال األستاذ جمال خاشقجي: دكان العلمانية؛ املنشور في 19 أغسطس في صحيفة الحياة. الفكرة العامة للمقال أن العلمانية كل ال يتجزأ، وبالتالي إما أن تأخذها بالكامل أو تتركها بالكامل، وتضمن املقال استشهادات متنوعة لدعم تلك الفكرة. أنا أعتبر أن أول األخطاء املنهجية في الحديث عن العلمانية حني توضع كمقابل للدين، أي دين كان، فالعلمانية ليست ذات محتوى على اإلطــالق، إنها أشبه ما تكون بأفكار تنظيمية، والتنوع الهائل الذي شهدته التجارب الوطنية الحديثة في عالقتها بالعلمانية جعلتها بالفعل دكانا فكريا حقيقيا يستطيع كل كيان أن يأخذ منها ال ما يشاء بل ما يحتاج إليه، والقيم الكبرى في العلمانية لم تعد اختيارية منذ ظهور الدولة الوطنية الحديثة التي ال بد وأن تشتمل على مسحة من العلمانية. فصل الدين عن الدولة كتعريف للعلمانية هو التعريف القادم من حالة التخويف الكبرى التي تعرض لها املصطلح، وفي تاريخ الحركة الفكرية السعودية ومع بداية ظهور أصوات ثقافية مؤثرة ال تنتمي للفضاء الشرعي والفقهي ومع ازدياد وتيرة الصحوة والحركية في الفضاء الشرعي السعودي كانت الوسيلة األمثل للصحوة في مواجهة األصوات الجديدة تتمثل في وسمها وتأطيرها ومن ثم سهولة االنقضاض عليها، ومرت تلك العملية بمراحل تطورت نظرا لتطور التنوع الفكري السعودي، وتطورت باملقابل حاالت التأطير والتصنيف املبنية على التخويف، بدءا من املاسونية والحداثة وصوال إلى العلمانية ثم التغريب وأخيرا الليبرالية. في هذه املسيرة كانت تتم أكبر عملية إيذاء وتشويه لهذه املعطيات الحضارية الكبرى، وتمت أيضا عملية إيهام بأنها عبارة عن اكتساح كامل للدين واألخالق والقيم، وهو ما ضاعف لدى العوام ذلك الذعر األعمى من العلمانية. إن الواقع الحقيقي لكل دولة وطنية يشير إلى أنها بحاجة فعلية لشيء من العلمانية (من الدكان)، وكلما تصاعد أداء الدولة نحو الوطنية كلما ازدادت تلك النسبة، وكل دولـة تدير واقعها من خالل تضافر الشرعيات الكامنة داخلها لتبني في النهاية شرعيتها الوطنية الكبرى. ثمة فرق شاسع بني فصل الدين عن الدولة (التعريف الشعبي للعلمانية) وفصل الدين عن املؤسسة، ال بمعنى أنها تكون مؤسسة غير متدينة بل بمعنى أن تصورات املسموح واملمنوع هي التي تدير عالقة املؤسسة باألفراد املستفيدين من خدماتها وليست تصورات الحالل والحرام، التي تمثل أحد املعطيات التي تبني عليها املؤسسة أنظمتها انطالقا مـن قيمها وثقافتها. هكذا تصبح الثقافة بأبعادها الدينية واالجتماعي­ة مؤثرا في تشكيل رؤية املؤسسة ولكن ليست منتجا من منتجاتها. إن املـذهـب أو الطائفة أو مــدى درجــة التدين لــدى األفـــراد ليست عـامـال مـؤثـرا فـي وطنيتهم وال في عالقتهم باملؤسسات وال في عالقة املؤسسات بهم، وألن العلمانية ليست ذات محتوى فهي قادرة على تقديم واقع تنظيمي لكل كيان انطالقا من قيم وثقافة ذلك الكيان. أخــيــرا: إن كـامـيـرات مـراقـبـة الـسـرعـة وإشــــارا­ت املـــرور فـي كـل الـعـالـم ال تـفـرق بـني الــخــارج مـن املسجد والخارج من مكان آخر. األسـبـوع الـقـادم: ملــاذا كـان غياب الوعي بالدولة الوطنية الحديثة أبــرز أسباب فشل ثــورات «الربيع العربي».

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia