Okaz

أمهات يضحني وأبناء يتعثرون

-

قــرأت مـؤخـرًا مقالة لكاتبة فرنسية تحكي قصة ابنها مـع اإلدمـــان، قصة حزينة حولته من شخص ناجح إلى شبح إنسان بالتدريج، ومشاهد من لـوعـة أم تــراقــب شـريـط حـيـاة ابــن لها يـهـوي ألدنــى نـقـاط الـسـقـوط بعدما ضحت بالكثير من أجله، تركت وظيفة مرموقة بعد دراسة طويلة، وعملت في عمل أقل برستيجًا ومردودا فقط لتتفرغ لساعاته املدرسية في غياب أي مساعدة من أهل أو خدم كما هو في مجتمعات أخرى، هجرت حياتها االجتماعية، وضحت بفرص زواج عديدة بعد انفصالها عن أبيه. كانت أما مثالية بشهادة كل من عرفها ولم يتوقع أحد وال يصدق من يعرفها بأن هذه نهاية ابنها. كانت املقالة مقالة شجاعة صادقة تصف بشفافية حال املدمن وكيف يحطم اإلدمان العالقات العائلية ويقضي أحيانًا على كل أمل باملستقبل. تركتني املقالة في حالة حزن، وفكرت كم من أمهات وآباء مثلها في عاملنا العربي، ولكن يمنعهم الخزي ومفاهيم الشرف العائلية من إعالن حسرتهم وأملهم على ما آل إليه حال أبنائهم وبناتهم، وليس ذلــك فقط فـي مـواقـف اإلدمـــان وإنـمـا فـي مـواقـف عـديـدة أخرى يتعثر فيها األبناء أو يجلبون ألهلهم خيبة األمل أو العار أو املرارة. كم من أمهات وآباء مثالين زرعوا واستثمروا في أبناء فلم يروا ثمار ما زرعوه، بل ويجنون اللوم واالتهام من املجتمع. كم مرة سمعنا كلمات مثل: «فـالن غير متربي» أو «أهله ماربوه» أو «وين أهلها عنها»، كم هي موجعة هذه الكلمات ألهل ضحوا وعانوا الكثير، ليس كل إنسان فاشل أو منحرف أو مجرم نتاجا ألهل فاسدين، صحيح أن التربية لها دور ال يستهان به، ولكن األهل يربون عدة أبناء في بيت واحد، فينشأ منهم الصالح والطالح، ويكون بعض اإلخوة متناقضن جدا. سمعت ذات مرة أخصائيا في علم نفس األطفال يقول بأن األمهات املثاليات املتفانيات زيادة عن الالزم واللواتي يضحن بالكثير ويقدمن الكثير ألبنائهن هن في الحقيقة من أسـوأ األمـهـات، ألنهن ينشئن أطفاال ال يعرفون كيف يعتمدون على أنفسهم، فكل شيء محضر ومـرتـب لـهـم، فـال يتعلمون االعـتـمـا­د على الـنـفـس، وال يـجـربـون نكهة التجربة والنجاح والفشل مبكرًا في حياتهم. مازلت أذكر هذه الكلمات كلما أرى أهال تفانوا في تربية أبنائهم فلم يجدوا إال الحطام. أعرف امرأة لديها 4 بنات ربتهم وحيدة بعد طالقها من أبيهم املعنف، ضحت بصحتها ومـالـهـا وحـتـى عالقتها بأهلها الــذيــن أرادوا لـهـا أن تــتــزوج وتــتــرك الـبـنـات مــع أبيهم فرفضت، أدخلت بناتها أفضل مدارس خاصة، ووفرت لهم كل ما يتمنونه، واليوم بعد سـنـوات وبـعـدمـا كـبـرن الـبـنـات وتـوظـفـن وظـائـف مـرمـوقـة سمعت أن واحـــدة مـن البنات تركت بيت والدتها وسكنت مع صديقة لها بالعمل وقاطعت أمها تمامًا، وجعلت الناس ينتقدون والدتها املسكينة، واألخــرى تزوجت رغما عن والدتها من شخص طامع في مالها جعلها هي أيضًا تقاطع والدتها، والثالثة توظفت في مدينة أخرى وال ترى أمها إال باملناسبات، والرابعة تسكن قريبة من والدتها ولكنها عملت لنفسها حياة اجتماعية حافلة ال تسع ساعاتها لزيارة والدتها وال حتى مرة كل شهر. والناس ال تفتأ ألسنتهم من نهش لحم األم املسكينة: «دللتهم، ماعرفت تربيهم، تربية نسوان، إلخ». وحينما سمعت إحداهن تقول ذلك، قلت لها: «وأين األب؟ أين دوره؟ لم أسمع أحدًا يؤنبه؟ تركهم وألقى بهم كالقاذورات بال دخل وبال سؤال، وأراه اليوم لم يتنصل فقط من مسؤوليته كأب بل وبرأه املجتمع من أي لوم، فأين العدالة؟» أصدقائي، فلنتوقف عن إطالق األحكام على األهـل، ففي بعض األحيان يكون األهل هم ضحايا األبناء وليس العكس.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia