طاهر.. نفٌس إنسانٌي باٍق
قبل أيــام قلبت أمـي ماضيا طويال يمتد من طفولتي إلى أيام ماضية قليلة، ومن ضمنها تاريخ حقبة زمنية كانت مؤثرة في حياتي. كـــتـــب، مـــجـــالت، مــــذكــــرات جــامــعــيــة، بحوث، ومــن ضـمـن هــذه الــبــحــوث، بـحـث قلبته على عجل فــوجــدت نـفـسـًا مطبوعا على الكتابة؛ خــاصــة فــي دقــائــق الـنـفـس اإلنــســانــيــة؛ وكأن جزءا من روح دوستويفسكي حلت فيه، قلبت بــعــض األوراق وغــصــت فــي بــعــض السطور وشـــرقـــت بــدمــعــتــي عــنــد بــعــض التعبيرات؛ تذكرت غرفتك.. ومكتبة والدك.. والوانيت ٧٨ والصيرورة التي كانت تحلق بنا دون شعور منا بذلك. لن أقول ليت ذلك الزمان يعود يوما ألنه ورقة في صفحات حياتنا وجزء من ذكرياتنا. عــنــوان الــبــحــث: «الــقــصــة وأثـــرهـــا التربوي» بحث مقدم كجزء من متطلبات مـادة املكتبة والبحث لـ «طاهر الزهراني». الــعــام ٨١٤١/٩١٤١هـــــــــــ، الــصــف شرعي! عـقـدان مـن الــزمــن! بالطبع أتـذكـر فـتـرة كتابة طاهر لهذا البحث، وأتذكر الروح املفعمة التي كـانـت تـسـري فــي جـسـده وتـبـعـث األدرينالني الـــذي نــدركــه فــي حـركـة وحــديــث طـاهـر املفعم بالحماسة. وهذا الكنز وجدته ضمن كومة من الذكريات الــثــالــث (ب) بـقـيـت فـــي حــمــايــة وحـــراســـة والـــدتـــي، وكـــم تحتفظ أمي لي من أسرار فاملجد لك يا أماه. وعندما وقعت عــيــنــاي عــلــى بــحــث طــاهــر شـهـقـت كـطـفـل وقـــع على أجمل لعبة أو أشهى حلوى. هجمت على البحث وأسرني الغالف الورقي البسيط املــــلــــون كــبــســاطــة ذاك الــــزمــــان وبساطة كاتبنا اإلنــســان، قلبت البحث وسحرني خط طاهر الذي ما زالت حركته تسري في النص إلى اآلن بينما كثير من النصوص تموت. وأما البحث، فإن ما استرق روحي الباب الثاني املتعلق باآلثار التربوية للقصة؛ تـــلـــك اآلثـــــــــار املــــســــطــــرة بـــلـــغـــة ال يصدق القارئ أنها لطالب في تلك السن ألن اللغة كبيرة ككبر عقل وخبرة وروح وإنسانية طاهر.. إن الـنـفـس اإلنــســانــي الـــبـــارز فــي لغة طــاهــر يـنـبـئ عــن كــاتــب مـطـبـوع على الــكــتــابــة والــنــزعــة اإلنــســانــيــة والتي ستكون عالمة مميزة لطاهر ككاتب وكــإنــســان، هـــذه الــــروح والــتــي تسري في روايــات طاهر من «جانجي» إلى «الـفـيـومـي» هـي مـا يميز طـاهـر وهل يالم طاهر؟ فاإلنسان يستحق ذلـك وأكـثـر، اإلنـسـان الــذي يقهره أخـــوه اإلنـــســـان، اإلنــســان الـــذي حــرمــت عـلـيـه أنظمة االســـتـــبـــداد كـــل شـــيء حــتــى حـــق املــنــامــات البريئة، اإلنــســان املستعبد فــي زمــن حـقـوق اإلنــســان، والذي مكننته جشع وأنانية إنسان آخــر.. الحب في رواية «امليكانيكي» ثــورة ضد األحـكـام االنطباعية والتي تتصور «الصنايعية» كـأكـوام لحم بال مشاعر؛ ألن أبسط األمور أن نحتكر معالم اإلنسانية ونــوزعــهــا كـإقـطـاعـيـات تبعا للعقلية القبلية وال نتصور أن غير اإلقطاعيني مـــــن املــــلــــونــــني واملـــــعـــــاقـــــني والــــفــــقــــراء والبسطاء وأبـنـاء األزقــة و«الكدادين» لهم الحق في اإلنسانية والعيش، هذه اإلنسانية التي انبرى طاهر ليكون من ضمن املحامني واملنافحني عنها دون أتعاب أو شهرة؛ فقط ألن طاهر إنسان ويدرك قيمة اإلنسانية. إن هذه األعمال العظيمة والتي ال تؤمن بـاالصـطـفـاف فــي رفـــوف املحسوبيات هــي الــتــي سـتـبـقـى وسـتـخـلـد وستجد األرضية الواسعة والصدى املتردد في فسيح الكون ألن الكون يؤمن باإلنسان، إن الـحـبـر الـــذي تكتب بــه سـطـور هذه األعـــمـــال مـــدادهـــا مــعــانــاتــنــا.. آالمنا.. طموحنا.. أحالمنا... صراعاتنا.. وهذا املداد مداد خالد، وهذا الخلود واملجد هـــو مـــا يــمــيــز األعـــمـــال اإلنــســانــيــة عن غيرها فــي لغة بعيدة عــن ألــغــاز األســطــورة وسطو االنــتــهــازيــني وحـــقـــارة املــــاديــــني. فـلـيـعـش اإلنسان، فلتعش اإلنسانية.