Okaz

انتصارات الدولة املدنية

- يحيى األمير yameer33@ hotmail.com

ظل وعي املؤسسة لسنوات طويلة متقدما على وعي املجتمع؛ هذه حقيقة تاريخية ثابتة، مجرد تأسيس دولة حديثة في محيط قبلي تقليدي يعد خطوة متقدمة تسعى لنقل ذلك املحيط من مرتبة إلى أخرى. كانت عملية النقل شاقة ومعقدة وتستلزم العديد من املعايير واألدوات من أبرزها طمأنة ذلك املجتمع الذي من الطبيعي أن يتخوف على قيمه التقليدية وأن يظل ممانعا لكل أشكال التغيير وبخاصة تلك التي ترتبط بمنظومة األعراف والقيم لديه. أدارت الدولة هذه املعادلة لسنوات من خالل مستويني: األول يتمثل في استمرار بناء املؤسسة ألهدافها في تأسيس وترسيخ الدولة الحديثة مع استيعاب التوجس الجتماعي. الثاني ويقوم على دعـم كل العوامل التي من شأنها أن ترفع مستوى الوعي الجتماعي وتحول الـشـارع إلى متطلع للحياة املدنية الطبيعية. وقد ساهمت النخب الثقافية واإلعالمية بشكل واضح ومؤثر في ذلـك وأوجــدوا مساحات واسعة لبث األفكار الجديدة في املجتمع ونقد القيم التي ل تتسق ومفهوم املجتمع الحديث. كان املجتمع يتحرك بخطى إيجابية ومرحلية؛ كانت الحياة تسير باتجاه متجدد والناس شركاء في الستفادة من التنمية والحياة الحديثة وليسوا مؤثرين في قرارها الـذي وجــدوا طمأنينة عالية تجاهه وأنه ل يمثل أي تهديد لقيمهم وأعرافهم التقليدية بل يتركها لهم إذا لم تخالف النظام وفي ذات الوقت أمدتهم الحياة الحديثة بكثير من األنماط املعيشية اإليجابية والجاذبة. وقـع التحول الجتماعي األبــرز مع ظهور الصحوة التي أوجــدت العامل الديني كــأداة للتدخل في قــرارات املؤسسة وحفز الـشـارع باتجاه العـتـراض وتوسع مفهوم اإلنـكـار واإلعــالء من شأن املحافظة، وقبضت الـصـحـوة على مـا ظنت أنــه مفتاح مهم فـي مسيرتها: اإلنــكــا­ر على الدولة واستخدام التدين مبررا لذلك اإلنكار، وكان للظروف السياسية التي أحاطت باملنطقة في فترات متفاوتة أثر واضح في اشتداد عود الصحوة وهيمنتها على جوانب واسعة في الخطاب املنبري الديني السعودي. لم تفطن الصحوة إلى أن أحد املسارات التنموية التي أوجدتها الدولة (ودعمها النفتاح العاملي الــواســع فـي وسـائـل الـتـواصـل واملـعـرفـ­ة) لـم يتوقف أبـــدا؛ إنــه املـسـار الــذي يصنع وينمي الوعي الجتماعي العام باتجاه املدنية والحياة الطبيعية. التعليم والبتعاث والسفر وثورة املعلومات واملعرفة املتعددة كلها عوامل وسعت من الشريحة الجتماعية املؤيدة للحياة الطبيعية املدنية وباتت تحمل الصوت الذي يقارع أصوات التخويف وبــث الـذعـر فـي املجتمع، وكــان كـل عهد مـن عـهـود هــذه الـبـالد يفضي لـآخـر مقدما لـه أرضية مناسبة للبناء عليها لخطوات جديدة. ظلت قيادة املرأة للسيارة امللف األكثر تعقيدا في املجتمع السعودي، وازداد تعقيده بعد محاولت القيادة التي حدثت العام ،1990 وتحول امللف إلى قضية صراع بني التيارات الفكرية وفي ذات الوقت كانت الصحوة تنظر إليه على أنه مكسبها األبرز، ومع كل التحولت الواسعة في املجتمع والتي ظلت املؤسسة تتابعها بكل إصغاء واهتمام، كان للقيادة موقفها التاريخي الذي انطلق من معطيات ثقافية واجتماعية وتنموية واسعة تؤكد أن الواقع الحالي اآلن هو األنسب إلنهاء كل ذلك الصراع. لم ينتصر تيار على آخــر، بل انتصرت إدارة إحقاق املدنية وترسيخها وتوطيد قيم الحقوق واملساواة حني التقت الرؤية واإلرادة السياسية بالوعي الجتماعي املتنامي ليتم التخلص اآلن من كل امللفات املزعجة واملؤثرة في السلم الجتماعي. انتهينا من تلك الحقبة ونستأنف اآلن مرحلة جديدة تسودها قيم الدولة الوطنية الحديثة التي تجعل من الحقوق وقيم احترام النظام واملعطيات الثقافية السعودية محورا حقيقيا للمستقبل. غدا وبينما يستعد كاتب أجنبي لكتابة مقال عن السعودية يستدعي فيه تلك العبارة الشهيرة املكررة (البلد الغني بالنفط الذي ل يسمح للنساء فيه بقيادة السيارة) سنكون أفسدنا عليه مقاله ذلــك، وأفسدنا على كل الذين أرادوا الحفاظ على هـذا امللف ليروجوا من خالله اتهام املجتمع بالنغالق والتشدد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia