ما بعد قيادة املرأة
قبل خمس سـنـوات تقريبًا - وبالتحديد فـي 29 محرم 1434 - تناولت قضية قيادة املــرأة في أحـد املقاالت املنشورة لي في «عـكـاظ» بعنوان «املــرأة وقـيـادة الـسـيـارات»، وانـحـزت بطبيعة الحال لقيادة املرأة التي يمكنها القيام بهذا األمر اليسير، وأشرت إلى أن قيادة املــرأة للسيارات هي مسألة وقـت ال أكثر، خاصة أن الكثير من السعوديات يقدن سياراتهن وهن بالخارج للسياحة أو لالبتعاث، ويمتلكن رخص قيادة بالفعل. وما كنا نحلم به منذ سنوات تجسد واقعًا نعيش به، فبعد صدور الـقـرار التاريخي بالسماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة داخــل اململكة نكون بذلك قد تجاوزنا تمامًا مرحلة الجدل بشأن هذه القضية، تلك القضية التي أخــذت من فكرنا الحيز الكثير، واستنزفت ساعات عقيمة من الجدل البيروقراطي بشأن قضية ال يختلف عليها عاقالن. األكثر من ذلك هو أننا بتلك الخطوة اإليجابية الشجاعة نكون قد أنهينا مرحلة تسلط بعض الـعـادات والتقاليد التي ما أنــزل الله بها من سلطان، وهـى الـعـادات والتقاليد التي لم تغير مسار وسـيـرورة مجتمع بكل فئاته وطـبـقـاتـه فـحـسـب، بــل ظلمت شـريـحـة عظمى مـنـه ال تقتصر عـلـى مجتمع الـنـسـاء فحسب، فـقـيـادة املـــرأة للسيارة ليست مـجـرد خـطـوة مـنـفـردة تعيد للنساء حقًا أصيال - ومكتسبًا أيضًا - كان ينبغي لهن استعادته في وقت ما من األوقات، ولكنها خطوة محسوبة ومقدرة على نحو امتيازي إلعادة هيكلة دور املـــرأة فــي املجتمع الــسـعـودي بـمـا يضمن تـطـويـرهـن وتطوير املجتمع ككل، وعلى نحو يسمح للنساء بالقيام بدور تشاركي أفضل وأكبر وأهم على جميع األصعدة، وبطريقة تنم عن تقدير حقيقي للمرأة السعودية واعتراف بدورها الجوهري في التشكيل الحضاري للمجتمع السعودي على مدار التاريخ، وهو التقدير الذي لم يتم إنكاره أبدًا، ولكنه كان مستترًا خلف عباء ة العادات والتقاليد التي كانت تسعى سعيًا حثيثًا لتقليص هذا الدور واالنتقاص منه. من الصعوبة إنكار أن الجهود السابقة جميعها لتمكني املـرأة في املجتمع الـسـعـودي على أي صعيد كـانـت تجابه بـقـدر كبير مـن الـرفـض والتصلب والتعنت، وهذا الرفض املتعنت كان يتجسد في العديد من املظاهر السلبية الــتــي طــالــت الـكـثـيـر مــن الــجــوانــب واألوضــــــاع االقــتــصــاديــة واالجتماعية والسياسية في املجتمع، فعلى سبيل املثال نتج عن االستعانة بالسائقني خـالل السنوات املاضية استنزاف مليارات الـريـاالت كل عــام، وهــروب رأس املـال الوطني لصالح الـدول املستقدم منها هذه العمالة، ناهيك عن ارتفاع معدل الجريمة. مـن املـؤكـد أن صــدور مثل هــذا الـقـرار سيصاحبه توفر العديد مـن الفرص الـوظـيـفـيـة املـتـنـوعـة فــي الـعـديـد مــن املــجــاالت أمـــام املــــرأة، وخـصـوصـًا تلك املجاالت التي يستحسن عمل النساء فيها، ومن هذه الفرص عملها في املجال األمني كالشرطة واملرور، كما يمكنها العمل اآلن في مجال خدمات النقل مثل خدمة كريم وأوبر ولنقل السيدات الالتي يفضلن االستعانة بامرأة بدال من الرجل، فمع خروج املرأة للمجتمع في صورة جديدة رسمية تعيد لها حقًا أصيال من حقوقها، أصبحنا نتوقع أن تفتح لها املزيد واملزيد من فرص العمل املختلفة واملتنوعة، بل وأصبحنا نتوقع لها أدوارًا ريادية وقيادية أكثر وأهم، كما أصبحنا نتوقع زيادة دخل األسر السعودية بشكل أكبر مما ينعكس على دخلها العام وعلى مستوى معيشة األفراد فيها بشكل خاص، وهو ما يسمح بتنمية اقتصادية اجتماعية مستدامة للمجتمع ككل على املديني القصير والطويل معًا. ولعله من فضلة القول أن نؤكد أن قيادة املرأة للسيارة وفتح الباب أمام مزيد من فرص العمل لها لن يتم إال وفق املقتضيات الشرعية والضوابط الدينية واملجتمعية أيضًا، فاملغزى من وراء السماح للمرأة بالقيادة هو توصيل رسالة بأن الركون لبعض العادات والتقاليد الظاملة لم يعد مالئمًا للعصر الحالي وال ملتغيرات الحاضر، وأن رؤية اململكة املستقبلية ترى أن اقتصاد البالد مرهون حاليًا بتوفير املزيد واملزيد من فرص العمل املميزة واملختلفة واملتنوعة أمام الجميع، وأمام النساء أيضًا باعتبارهن نصف القوى العاملة بـالـدولـة، والنصف املـؤثـر أيضًا فـي بقية قــوى املجتمع األخـــرى، وأن رؤية 2030 ليست رؤيـة اقتصادية ضيقة فحسب، بل هى رؤيـة شاملة متكاملة لجميع فئات وطبقات وشرائح املجتمع السعودي، وتشمل رؤى مستقبلية واعـدة للجوانب السياسية واالقتصادية واالجتماعية، وأن للمرأة نصيبا وافرا منها، حيث يمثل قرار السماح لها بالقيادة الخطوة األولى فحسب.