أبو رجل مسلوخة
أجــزم أن أحفادنا سيضحكون عندما يتصفحون مقاالت الكتاب، وسيقلبون أكفهم استنكارا أن تمضي حياة الكاتب الصحفي وهو يحارب طواحني الهواء حـول قضايا ليس لها موقع في الخارطة الــعــاملــيــة اإلنــســانــيــة كـــأن تــقــود املـــــرأة ســيــارتــهــا أو تــخــرج للعمل. وسـيـزداد الضحك حينما يقرؤون لكاتب مقالة فردها لكي يحاج شخصا آخر حول جواز الصورة الفوتوغرافية.. وإذا استمروا في تقليب فترتنا الزمنية التي عشناها (ونعيشها) وقــــرؤوا املــوضــوعــات الـجـسـام الـتـي يـنـوء بحملها الـكـتـاب فسوف يترحمون علينا بـا شـك، فقد أمضينا سـنـوات طــوال نعالج صدأ بعض العقول التي حرمت حاال وضيقت اتساعا. ماذا سيقال عن كل التحريمات االجتماعية التي عشنا بها وبداخلها في حني أنها مناشط حياتية ال تمس دينا وال تخترق حدا؟ هـــل يــســتــطــيــع أحـــفـــادنـــا تــخــيــل كـــم الــتــحــريــم الـــــذي حــاصــرنــا من شــرب الـقـهـوة إلــى لبس البنطال إلــى ركــوب الــدراجــة إلــى الصورة الفوتوغرافية إلــى تحريم املوسيقى والـغـنـاء إلــى تحريم ابتعاث املرأة إلى تحريم قيادتها لسيارتها إلى تحريم السينما؟ عـــشـــرات األنـــــــواع مـــن الــتــحــريــم، هــــذه املــــوانــــع جــعــلــتــنــا ال نعيش شخصيات طبيعة، فخلقت منا املنافق واملرائي والكاذب واملتزلف واملشطور واالنفصامي... مجتمع يبطن ما ال يظهر. ومـن عـاش هـذا الزمن 40( عاما) كـان مخلوقا محما باآلثام يرى فــي نفسه الـقـصـور الـكـامـل وأن عليه اجـتـيـاز هــذه الـدنـيـا مغمض العينني عن كل شيء حتى السير في األرض (فقد حرم السفر درءًا للشبهات). وهذا الجيل الذي عمره من 10 إلى 40 سنة يستطيع الواحد منهم الخروج أمام املأل ليفتي بأن هذا حرام وهذا حال، ولذلك ستكون املتغيرات الراهنة صعبة عليه، وربما يقول إننا كفرة، ويحق له، فلم يعش حياة طبيعية بتاتا. وعندما يقيم مركز امللك فهد الثقافي سهرات سينمائية سيجن من لم يجن من هؤالء (يجن هنا داخل البلد) ويفرح في ارتياد صاالت العرض السينمائي في الخارج.. وأنصح الكثيرين من أبناء هذا الجيل تسجيل املشاهدات والشهادات عن التغير الـحـادث اآلن فربما ينسخها ألبنائه أو أحـفـاده ليقول لهم: - كنا هناك، ونحن اآلن هنا.. نعم كتاب العالم ناقشوا قضايا العدل واملساواة والخير والجمال، بينما كــان على كتاب البلد فكفكة (صـوامـيـل) صدئة ليس لشيء سوى أن تسير عجلة الحياة، وأعتقد أن هذا الدور يوازي القضايا الكبرى، إذ كيف لك أن تناقش العدالة وأنت تعيش في محيط غير عادل؟ أو كيف تناقش الخير وأنت تقمع الحرية الشخصية؟ أو كيف تناقش الجمال وكل الفنون في بلدك محرمة؟... نحن اآلن نخرج مـن عنق الـزجـاجـة، والخشية كـل الخشية أن تتم إعادتنا إلى قعر الزجاجة، وأكاد أجزم أن ما أخذ ال يرد، وأن الحياة ال تتنازل عن إحدى قدميها لكي تسير عرجاء. من اآلن لن يقال لنا: أبو رجل مسلوخة.