صنعوا الفساد بكفاحهم

ما أن تم اإلعالن عن تشكيل لجنة مكافحة الفساد، واستدعاء العديد من املشتبه بهم ضمن قائمة طويلة من األسماء البارزة، ضمت عددا من األمــراء والــوزراء ورجـال األعمال، حتى عم الفرح أرجـاء الوطن، ليس تشفيا أو شماتة باملقبوض عليهم ال قدر الله، فاملتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولكنه الشعور األولي بالتشافي بعد استئصال الـعـضـو املــصــاب بــــورم الــفــســاد والــــذي كـــان يـعـلـمـه الـطـبـيـب وأهل املريض جيدا ولكنهم كانوا مضطرين إلخفائه عن املصاب حتى ال تسوء حالته النفسية فيؤدي ذلك الستشراء املرض بالجسم كله! اليوم انزاحت الغيوم وأشرقت الشمس من جديد على حي قويزة، ونبتت الزهور على أرصفة شارع جاد، وهبت النسمة العليلة على مقبرة ضحايا سيول جــدة، معلنة بـأن دمـاءهـم البريئة لن تذهب هــــدرا، الــيــوم ظــهــرت الــكــبــاري واألنـــفـــاق واملــشــاريــع أكــثــر انشراحا وحيوية بعد أن انــزاح عن كاهلها هم ثقيل كـان غالبا ما يفقدها نصف نظارتها، الـيـوم فقط تنفس النقل التلفزيوني للمسابقات الــكــرويــة، وتــنــهــدت املــنــاقــصــات واملــنــافــســات الـحـكـومـيـة، وشهقت الصكوك واألراضــي البيضاء بعد أن تم حجب الفساد عنها وأخذ التعهد واإلجراء الصارم بحقه لضمان عدم التعرض لهذه املقدرات الثمينة مرة أخرى. في غمرة هذه الفرحة العارمة، انطلقت أماني املواطنني املتضررين فراحوا يحصون الصور األخرى للفساد ومناصب املتهمني بها، أما أنا فلي أمنية أخرى مغايرة، وهي تطبيق مبدأ (عالنية الجلسات) عبر الدوائر التلفزيونية خالل مرحلتي التحقيق واملحاكمة، فهي إلــى جـانـب أنـهـا وسـيـلـة ليطلع كــل مـنـا عـلـى مـجـريـات أهــم قضية شغلت الـرأي العام واستنزفت ثـروات البالد، فهي باملقابل ضمانة أكيدة للمتهمني للحصول على محاكمة عادلة، وما شجعني على إعــالن هــذه األمـنـيـة أن هــذه القضية ليست مـن بـني القضايا التي تحكمها الظروف الخاصة مثل قضايا األحوال الشخصية، إضافة إلى أن رئيس لجنة مكافحة الفساد قبل أن يكون وليا للعهد -حفظه الله- فهو رجل قانون ومدرك بكل تأكيد ألبعاد وفوائد تنفيذ هذا املبدأ القانوني األساسي. ربـمـا تسنح لـنـا الـفـرصـة إذن لــرؤيــة أولــئــك األثــريــاء عـلـى الشاشة الـصـغـيـرة مــرة أخـــرى، ولـكـن لـيـس فــي قـصـورهـم الـفـاخـرة ضيوفا على تلك البرامج امللمعة ليروجوا لكذبة أنهم صنعوا ثرواتهم (من الصفر)، أو أنهم بدأوا حياتهم بشكل عصامي حني كان يعمل الواحد منهم حماال في امليناء أو تاجر خردة أو بائع بليلة، لن نرى فيهم هذه املرة تلك األنفة املزيفة ولن نسمع منهم تلك الشعارات الواهية، ولــن يـكـون بمقدور أي منهم االستخفاف بعقولنا أو التقليل من مكانة الشريحة العظمى بمجتمعنا من املواطنني البسطاء، الذين بالكاد يعيشون حـد الكفاف لكنهم ال يتوانون عـن حماية بلدهم الحبيبة بصدورهم وبنادقهم. نعم سوف نرى األغلبية منهم هذه الوهلة على حقيقتهم مجردين من كل متاع الدنيا، وهم يقفون خلف قفص االتهام لينافحوا قليال قبل أن يقر البعض وربما الكثيرون منهم بجرائمهم املالية أمام األدلــة الدامغة التي تدينهم، ثم يبدأون بعدها مطأطئي الرؤوس بـسـرد قصص سرقاتهم وتعدياتهم، وكـيـف أنـهـم صنعوا الفساد بكفاحهم و(مــن الصفر) فأكلوا األخـضـر والـيـابـس وجلبوا العار للسوق االقتصادية املحلية وأحالوها لبيئة طــاردة لالستثمارات األجنبية طوال العقود املاضية!