ما حدث في اجلزيرة العربية منذ خلق البشرية كان تسلسًال وتهيئة لظهور اإلسالم فيها
طـــــرح صـــاحـــب الــســمــو املــلــكــي األمير ســـلـــطـــان بــــن ســـلـــمـــان بــــن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ورقـة بعنوان (بـدأ اإلسـام في جزيرة العرب منذ خلق الله االنسان)، فـي جلسة لسموه أمــس األول األربعاء 18( صفر 9341هـــــ املــوافــق 7 نوفمبر )م2017 شـــاركـــه فـيـهـا كـــل مـــن معالي الــــدكــــتــــور فـــهـــد الــــســــمــــاري املستشار بــالــديــوان املـلـكـي، أمــن عــام دارة امللك عــبــدالــعــزيــز املـــكـــلـــف، والـــدكـــتـــور علي الــغــبــان نـــائـــب رئـــيـــس الــهــيــئــة العامة للسياحة والتراث الوطني املشرف العام على برنامج خـادم الحرمن الشريفن للعناية بـالـتـراث الــحــضــاري، وأدارها معالي الـدكـتـور خليل الـبـراهـيـم مدير جــامــعــة حـــائـــل، وذلـــــك ضــمــن جلسات ملتقى آثــار اململكة األول املـقـام حاليا فــي مــركــز املــلــك عـبـدالـعـزيـز التاريخي بالرياض. وأكد سموه في هذه الورقة أن من املهم في هذا العصر الذي يجد فيه املسلمون أنـفـسـهـم فــي مــواجــهــة مــع الحضارات األخــــرى أن نـعـيـد التفكير فـيـمـن نحن ومـــا هــو دورنــــا فــي الـــحـــراك اإلنساني املستقبلي، منطلقن من قــراءة جديدة في تاريخ اإلسام الذي بدأ -والله اعلممـنـذ خـلـق الــبــشــريــة، وأن كــل مــا حدث منذ ذلك الوقت الـذي ال يعلمه إال الله، كـــان تـسـلـسـا يـــؤدي إلـــى بـــزوغ شمس الهداية والخير من مكة املكرمة في قلب الـجـزيـرة العربية وعـلـى يــد عربية من خيرة أهلها في فترة زمنية مهمة كانت فيها مكة املكرمة مـحـورًا استراتيجيًا حضاريًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا ومــلــتــقــى لــلــقــوافــل الــتــي جــــاءت للحج والــــتــــجــــارة، مــمــا شــكــل كــيــانــًا ذا قوة سياسية متنامية، وساعد على انتقال رســالــة اإلســــام والــقــرآن الـكـريـم بلغته العربية الراقية التي تطورت عبر آالف السنن حتى نزل بها القرآن الكريم، إلى أرجــاء املعمورة ، مما يؤكد أن اإلسام العظيم لــم ينشأ مــن أرض مـفـرغـة من الــحــضــارات أو املــعــرفــة أو األخــــاق أو القيم العربية األصيلة. وأشـار سموه إلى أن اإلسـام الـذي جاء لكي يؤكد التوحيد وهو دين البشرية وخــــاتــــم األديــــــــــان، وأن الـــلـــه سبحانه اختار أرض الجزيرة العربية وشعبها لحمل هـذه الرسالة السامية منذ خلق الله البشرية، وأن التعاقب الحضاري والــبــشــري واالقــتــصــادي الـكـثـيـف على هـــــذه األرض املـــبـــاركـــة عـــبـــر التاريخ يــدل على حــراك مستمر لتهيئة املكان واإلنـسـان لحمل هـذه الرسالة السامية للعالم. مبينا أن هــذا البحث جــاء مـن منطلق أن الـلـه اخــتــار أرض الـجـزيـرة العربية وشعبها لحمل هــذه الـرسـالـة السامية مـنـذ خـلـق الــلــه الـبـشـريـة وأن التعاقب الـــحـــضـــاري والـــبـــشـــري واالقتصادي الكثيف على هـذه األرض املباركة عبر التاريخ يدل على حراك مستمر لتهيئة املــكــان واإلنـــســـان لـحـمـل هـــذه الرسالة السامية للعالم. وأوضــــــح ســمــوه أنــــه بــــدأ فـــي التفكير إلعـــداد هــذه الــورقــة منذ أربــع سنوات، مبينا أنه بدأ االهتمام باآلثار والتراث مــنــذ صــغــره وكـنـتـيـجـة ملــرافــقــة والده امللك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله لــلــمــواقــع الــتــراثــيــة واألثـــريـــة، فــقــد كان املـــلـــك ســلــمــان شــغــوفــا بـــالـــتـــراث كثير االطـــــــاع عــلــى كــتــب الـــتـــاريـــخ وزيــــــارة املواقع التاريخية، وهذا ما ورثه األمير سلطان عن والده. وأضاف: "كنت أتساءل هل دورنا فقط في التنقيب عن اآلثار، وأن نخرج قطعا أثــريــة ونـضـعـهـا فــي املـتـاحـف فــقــط، أم يفترض أن يكون أكبر من ذلك؟ ومـــا هــو الـــرابـــط بــن كــل هـــذا التاريخ وهذا التراكم الحضاري وما نحن عليه اليوم؟". ولفت سموه إلـى أنـه طـرح ورقته التي عرضها في هذه الجلسة، على مجموعة مـــن الــعــلــمــاء األجـــــــاء ومــجــمــوعــة من خــبــراء اآلثـــــار، وأنــــه يـطـرحـهـا فــي هذا امللتقى لاطاع من املهتمن والدراسة والتمحيص والنقد، مؤكدا أنها تحوي مواضيع مهمة، وهي ورقة تربط قصة نشوء اإلســام بخلق البشرية، وتهيئة الــوقــت واملــكــان بما حــدث قبل اإلسام لبزوغ شمس الهداية والخير من مكة املكرمة. وقـــــــال ســــمــــوه فــــي هــــــذه الــــــورقــــــة: (في مـحـاضـرة ألقيتها فـي مـركـز أكسفورد لـلـثـقـافـات اإلســامــيــة فــي عــام ـه1431 و1يونيو م2010 وأيضا محاضرة في عـــام م2014 طــرحــت فــكــرة مــفــادهــا أن اإلسام هو جوهره التوحيد الخالص لله تعالى هو دين الفطرة الذي أختاره الله سبحانه وتعالى للبشرية وخلقها وأن اخــتــيــار الـــجـــزيـــرة الــعــربــيــة مهد لإلسام والرسالة الخاتمة التي نزلت عـلـى الـنـبـي صـلـى الــلــه عليه وســلــم ما هــي إال امـــتـــداد لــذلــك الــتــدبــيــر اإللهي، وأن مــــســــار الــــحــــضــــارة فــــي الجزيرة الـعـربـيـة مـرتـبـط بـهـذا املــوضــوع األهم في تاريخها. ولـــــذا فــــإن اإلســــــام لـــم يــنــزل فـــي أرض فارغة من الـحـضـارات، وأن كل ما وقع على أرض الجزيرة العربية من أحداث وتقاطعات حضارية وإنسانية كانت بـمـثـابـة مــقــدمــات وبــشــائــر هـيـئـت إلى بـــــزوغ شــمــس اإلســــــام مـــن هذه األرض املباركة؛ لذلك فإن العناية بآثار حضارات اإلنــســانــيــة عــلــى أرض الجزيرة العربية هي فــــي نــــظــــري مــــن باب العناية بتاريخ الدين اإلســامــي الـعـظـيـم في مـكـان قــدر الـلـه أن يكون مــهــيــئــًا مــنــذ وعـــبـــر مراحل تاريخ وتعاقب االحتضان النطاقة اعــظــم ديـــن لـلـبـشـريـة جـمـعـا فــي لحظة تاريخية مقدرة منذ األزل والله اعلم. قـــد دفــعــنــي ذلــــك الـــطـــرح إلــــى استقراء تاريخ الجزيرة العربية وعاقته بدعوة التوحيد مـن خــال مـا هـو مـتـاح حتى اآلن مــن مـعـلـومـات تــوصــل إلـيـهـا علم اآلثار وبعد تفكير وتأمل وتداول اآلراء حيال هذا املوضوع املهم مع نخبة من علماء الشريعة وعلماء اآلثار والتاريخ األفـــاضـــل الـــذيـــن أثـــــروا هــــذا املوضوع بأفكارهم النيرة وماحظاتهم حتى جاء ت هذه الورقة. يـــــقـــــول الـــــلـــــه سبحانه وتــــعــــالــــى فــــــي كتابه الــعــزيــز "إن أول بيت وضــــع لــلــنــاس للذي بـبـكـة مــبــاركــا وهدى لــــــلــــــعــــــاملــــــن"، وحــــيــــث يــذكــر بــعــض املفسرين إن إبراهيم عليه السام عندما أمــره الـلـه بالتوجه إلى مكة في القرن الثامن عشر قبل املياد قــام بــإعــادة بـنـاء الكعبة وأن قواعدها كــانــت مــدفــونــة فــي ربــطــة صــغــيــرة في وسط الــوادي وأن بناءها كان في زمن سابق إلبراهيم عليه السام ويستدلون بذلك في قوله تعالى "وإبراهيم إذ يرفع القواعد من البيت" أي أن قواعد البيت كــانــت أســـاســـات وكـــانـــت مـــوجـــودة من قبل وهـو أول من رفعها على األساس الذي بنيت عليه الكعبة في زمانه عليه السام. لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون اإلســـــام الــــذي نـــزل عــلــى مـحـمـد صلى الله عليه وسلم أخر األديان وخاتمها، ولكونه خاتم األنبياء فـإن الدين الذي جاء به هو دين شامل للعموم البشرية وعلى مختلف األزمــان وهــذه الحقيقة تدعونا لإلجابة على هذين السؤالن، ملاذا اختار الله سبحانه وتعالى نزول اإلســــــام فـــي مــكــة املــكــرمــة فـــي جزيرة الــــعــــرب؟ وملـــــــاذا وضـــــع الـــلـــه سبحانه وتـــعـــالـــى أول بــيــت لــلــعــبــادة فـــي مكة املـكـرمـة فـي قلب جـزيـرة الـعـرب أيضا؟ وبــــن الــحــدثــن أصـــــول وتـــطـــاول عمر اإلنــســان، ذلــك لـيـس مـجـرد مصادفة فإن الله سبحانه وتعالى يــقــول "وكـــــل شــــيء عنده بــــمــــقــــدار"؛ ولــــعــــل الله سبحانه وتعالى أراد رسـالـة اإلســـام تكتمل حـــــيـــــث بــــــــــــدأت والـــــلـــــه سبحانه وتعالى اعلم. إن الــــــــدراســــــــات األثــــريــــة وعصور ما قبل التاريخ في الجزيرة العربية التي قامت ويقوم بها قطاع اآلثــار واملتاحف فـي الهيئة الـــعـــامـــة لــلــســيــاحــة والـــــتـــــراث الوطني بــالــتــعــاون مـــع الــجــامــعــات السعودية وخــبــراء مـحـلـيـن ودولــيـــن تـشـيـر إلى وجــود االسـتـيـطـان الـبـشـري فــي مواقع عــدة فــي اململكة يـعـود تــاريــخ بعضها لفترة العصر الحجري القديم، وهناك مــواقــع عـــدة فــي مـكـة املــكــرمــة فــي فترة الـــعـــصـــر الـــحـــجـــري الـــقـــديـــم والعصر الــحــجــري الــحــديــث لــلــفــتــرات املتعددة تغطي الفترة الزمنية املمتدة منذ 350 ألف سنة قبل الوقت الحاضر نــــــــزوال إلـــــى 7000 آالف ســـنـــة، كـــمـــا تــــم العثور عـلـى أدلـــة أثــريــة تؤكد هـــــذه الـــحـــركـــة املبكرة فـــــي تـــــاريـــــخ اإلنـــــســـــان فـــــــي أرض الـــــجـــــزيـــــرة الــعــربــيــة الــســعــوديــة في اململكة العربية السعودية بالتحديد، وتحويل قضية عبور اإلنسان من فرضية إلى حقيقة علمية ثابتة. ومــن جـانـب آخــر فــإن الـبـعـثـات األثرية املـشـتـركـة الــدولــيــة الـعـامـلـة مــع الهيئة ويـــــزيـــــد عـــــددهـــــا اآلن عـــــن 34 فريق أثبتت بــاألدلــة األثــريــة والبنتولوجيا أن الـــجـــزيـــرة الــعــربــيــة كـــانـــت مروجًا وأنــهــارًا وأنــهــا شـهـدت أكـثـر مــن عشرة آالف بحيرة جافة تم توثيقها بمنطقة الربع الخالي وشمال اململكة حتى اآلن، وهــنــاك اآلالف األخــــرى، وأنــهــا شهدت فترات عدة من التصحر واملناخ الرطب وأنها كانت غنية باألنهار والبحيرات قـبـل التصحر األخــيــر الـــذي يـعـود إلى عـشـرة آالف سنة قبل الـوقـت الحاضر، وهــــذه الــنــتــائــج األثـــريـــة أصــبــحــت اآلن حقائق معترف بها لــدى علماء اآلثار واملناخ القديم في جميع أنحاء العالم مصداقًا لحديث رسول األمة صلى الله عليه وسلم "ال تقوم الساعة حتى يكثر املال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة
ُْ ماله، فا يجد أحدا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا" رواه مسلم. باإلضافة إلى ذلك فإن املتأمل في الــتــاريــخ الــحــضــاري في الجزيرة العربية يدرك أن مسار هذا التاريخ بني عـلـى قضية التوحيد منذ أن وضع الله بيته األول في قلب الجزيرة العربية ومرورًا باألمم الـــــبـــــائـــــدة عــــــــاد وثــــمــــود التي هـي عاشت على أرض الــجــزيــرة الـعـربـيـة، وورد ذكــرهــا في القرآن الكريم وانتهاء باإلسام الرسالة الـخـالـدة فـي املـكـان نفسه. وكــل مـا كان بن هذا وذاك وقبله والله اعلم كما في اعـتـقـادنـا تهيئة وتـحـضـيـر الستقبال أعــظــم حــــدث شــهــده الــعــالــم كــمــا قلت، وشهدته الجزيرة العربية على اإلطاق فـي تاريخها، هـو نــزول الــقــرآن الكريم عــلــى أخـــر األنــبــيــاء مــحــمــد صــلــى الله عـلـيـه وســلــم وتكليفه بــرســالــة اإلسام العظيمة إلى الناس كافة. وإن مــا قــام بــه أبــو األنـبـيـاء إبراهيم عـــلـــيـــه الـــــســـــام والــــــرســــــاالت السماوية واألديــان التي جاءت بعده في منطقة الــشــرق األدنــــى مــا هي إال تـــجـــديـــد كعقيدة توحيد وتمهيد مبكر لــبــزوغ شـمـس اإلسام مــــــــن أرض الــــــجــــــزيــــــرة العربية، وإن كان الفارق الزمني بن إبراهيم عليه السام محمد صلى الله عليه سلم يناهز 24 قرنًا فخال تلك الفترة ظهرت املمالك الـعـربـيـة عـلـى أرض الــجــزيــرة العربية املــبــكــرة، وتشكلت املــقــومــات الرئيسية لـلـجـزيـرة الـعـربـيـة الــتــي اعـتـمـدت على الــتــجــارة عـبـر مـنـظـومـة طـــرق التجارة جـنـوبـًا وشــمــاال وشــرقــًا وغــربــًا وطرق الـحـج الـتـي أيـضـًا ارتـبـطـت معها طرق التجارة مستفيدًا من املوقع الجغرافي املــتــمــيــز لــلــجــزيــرة الــعــربــيــة بوصفها نقطة الــتــقــاء الــحــضــارات شـــرق العالم القديم وغربه. إن نـــشـــوء هــــذه املـــمـــالـــك والحضارات والحراك االقتصادي املصاحب والقوى الحربية العسكرية التي نشأت لتأمن وتحمي التجارة الدولية هيأت سكان الجزيرة العربية عبر الوقت والعصور ثقافيًا واقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا لــحــمــل األمـــانـــة الــكــبــرى وهــــي استام رســــالــــة اإلســــــــام ونــقــلــهــا إلـــــى العالم بأجمع. كما شكل تطور اللغة العربية املتفوقة الـتـي نــزل بـهـا الــقــرآن الـكـريـم ونضوج أســالــيــبــهــا وصــيــغــهــا وامـــتـــاك العرب ناصية البيان في لغاتهم التي بلغوا فـــيـــهـــا قــــمــــة الفصاحة والـبـاغـة خـطـوة رئيسة في مسار التهيئة فلقد نــــــزل الـــــقـــــرآن الكريم فــــي لــحــظــة تاريخية يــعــتــز ويـــفـــاخـــر فيها شعب الجزيرة العربية بـــــلـــــغـــــتـــــهـــــم وتـــــفـــــوقـــــهـــــا والـنـاضـجـة، وبـــرزت مامح ذلـــــك الـــتـــفـــوق فــــي الــخــطــابــة وشعر املـعـلـقـات الــتــي سـاهـمـت مــواســم الحج وأســـــــواق الــــعــــرب، فـــي الــصــيــت الذائع واالنتشار العريق لتكون اللغة العربية جاذبة ألن يتعلمها ويتداولها الناس ولكي تنتقل مع قوافل الحج والتجارة، قلنا هذه وسيلة اإلنترنت القديمة إلى أصقاع املعمورة والذي ساهم والله اعلم فــي تهيئتهم تهيئة الــنــاس الستقبال وفـهـم لغة الــقــرآن الـكـريـم لحظة نزوله على نبي األمة. كما تطور الخط العربي من خاصة أقــــام عـــدة كــتــب بــهــا العرب طــــــــوال ألــــفــــي ســـنـــة قبل اإلســــــام لــيــكــون الخط الــــعــــربــــي قــــــــــادرًا على تــدويــن الــقــرآن الكريم عـــنـــد نــــزولــــه، كـــمـــا أن دعــــــوة إبـــراهـــيـــم عليه الـــــســـــام لــــربــــه لتوفير األمــــــن والـــــرخـــــاء لسكان املــكــان الـــذي بـنـيـت فـيـه الكعبة املــشــرفــة ونـــــزل فــيــه الـــقـــرآن الــكــريــم لم يـــكـــن خــــاصــــة بـــمـــكـــة املــــكــــرمــــة؛ وإنما شملت كامل الجزيرة العربية كوحدة جغرافية وبشرية سخرها الله لخدمة الحرمن الشريفن واستقبال اإلسام واالنــطــاق بـه ألرجــاء الـدنـيـا. ولــم تكن مقصورة على عصره بل ممتدة إلى أن يــرث الله األرض ومــن عليها، قــال الله فـي محكم كتابه وعـلـى لـسـان إبراهيم عليه الــســام. (ربـــنـــا لـيـقـيـمـوا الصاة
َِّ َُ ْْ َُ َِّّ ِّْ ُْ َْ ََ فاجعل أفئدة من الناس تـهـوي إليهم
َِ َِ َِ وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) ولذلك فـإن دعــوة إبراهيم عليه السام فـي ظني ربطت عـبـادة الله والتوحيد والصاة والتي هي الصاة عماد الدين شـــامـــا وتــشــمــل ذلــــك فـــي مصطلحات الــصــاة كـلـمـا يـعـنـي ذلـــك مــن عبادات
من املهم في هذا العصر الذي يجد فيه املسلمون أنفسهم في مواجهة مع احلضارات األخرى أن نعيد التفكير في دورنا في احلراك اإلنساني املستقبلي التعاقب احلضاري والبشري واالقتصادي الكثيف على هذه األرض املباركة عبر التاريخ يدل على حراك مستمر لتهيئة املكان واإلنسان حلمل هذه الرسالة السامية للعالم
وقــيــم أخــاقــيــة وإنــســانــيــة سـامـيـة اتى بــهــا ديـــن اإلســــــام، شــمــل ذلـــك بالخير واالزدهـــــــــار واالســـتـــقـــرار والـــرفـــعـــة في الـــجـــزيـــرة الـــعـــربـــيـــة، و الــــتــــزام شعوب هــذه األرض املــبــاركــة بـذلـك هــو أساس الســـتـــمـــرار نــعــم الـــلـــه عــلــيــهــم مـــن خير وأمن ورفعة، كما إن بناء الكعبة جعل أفئدة من الناس تهوي إلـى هـذا املكان نتيجة أن الجزيرة العربية وقلبها مكة املكرمة كانت هي مول للحج مصحوبة بــالــتــجــارة، وتــبــع ذلـــك الــنــشــاط املنظم لـــرحـــات الــشــتــاء والــصــيــف والنشاط االقـــتـــصـــادي والــثــقــافــي لـــســـوق عكاظ وغيره من أسواق العرب املشهورة قبل اإلســـــام. فـأصـبـحـت الــجــزيــرة العربية عـبـر مــراحــل تـاريـخـهـا قــوة اقتصادية وسياسية وحـضـاريـة وثقافية مهيئة لـــنـــزول الـــقـــرآن الــكــريــم وبــــــزوغ شمس اإلسام في لحظة تاريخية مقدرة. وبــعــد نـــــزول اإلســــــام وبــعــثــة الرسول محمد صـلـى الـلـه عليه وسـلـم توحيد قــبــائــل الــجــزيــرة الــعــربــيــة لـتـسـاهـم في حــمــل رايـــــة اإلســـــام إلــــى بــقــيــة شعوب األرض، وهــــــي أول وحـــــــدة شهدتها الجزيرة العربية في تاريخها. فنهض شـعـب الــجــزيــرة الـعـربـيـة ملــســانــدة نبي األمـة لتوحيد أرجائها ونشر الرسالة، وتــأســيــس الـــدولـــة اإلســامــيــة الكبرى الـتـي تعاقبت داخــل الـجـزيـرة العربية وخارجها. وقـد شهدت الجزيرة العربية بعد ذلك نـشـأة الـعـديـد مـن الــدويــات واألمارات الـصـغـيـرة، وعــاشــت حــالــة مــن الشتات السياسي واالجتماعي كما هو معروف حتى قامت الـدولـة السعودية املباركة في منتصف القرن الثامن عشر الهجري بـتـوحـيـد أجــــزاء كـبـيـرة منها سياسية وجــغــرافــيــا واجــتــمــاعــيــًا وبـــنـــاء كيان راسـخ أساسه اإلسـام وخدمة املسلمن وتــرســيــخ الــقــيــم الــعــربــيــة واإلسامية السامية وبـنـاء اإلســـام وإعــمــار املكان وتحقيق األمــن واالسـتـقـرار واالزدهار واملـــســـاهـــمـــة فــــي مــســتــقــبــل اإلنسانية جمعاء وربط العزة والخير مرة أخرى ربط العزة والخير بالدعوة والتوحيد وخدمة الحرمن الشريفن وإعاء كلمة اإلسام شعارًا ومنهاجًا لها. لقد أتى هذا البحث من منطلق اإلسام الــــذي جـــاء لــكــي يــؤكــد الــتــوحــيــد وهو ديـن البشرية وخـاتـم األديـــان، وأن الله اختار أرض الجزيرة العربية وشعبها لحمل هـذه الرسالة السامية منذ خلق الـلـه البشرية وأن التعاقب الحضاري والــبــشــري واالقــتــصــادي الـكـثـيـف على هـــــذه األرض املـــبـــاركـــة عـــبـــر التاريخ يــدل على حــراك مستمر لتهيئة املكان واإلنـسـان لحمل هـذه الرسالة السامية للعالم. وهذا يطرح هذه الورقة مستنيرًا بهداية الله سبحانه وتعالى فإنما هي محاولة مــخــلــصــة لـــقـــراءة أكــثــر شــمــولــيــة ألهم قضية تمس اإلنسان والجزيرة العربية واملــســلــمــن كـــافـــة، فــمــن املـــهـــم فـــي هذا العصر الذي يجد فيه املسلمون أنفسهم في مواجهة مع الحضارات األخـرى أن نعيد التفكير فيمن نحن وما هو دورنا في الحراك اإلنسان املستقبلي منطلقن مــن قـــــراءة جــديــدة فــي تــاريــخ اإلسام الذي بدأ والله اعلم منذ خلق البشرية، وإن كل ما حـدث منذ ذلـك الوقت الذي ال يعلمه إال الله كان تسلسا يؤدي إلى بـــزوغ شـمـس الـهـدايـة والـخـيـر مــن مكة املكرمة في قلب الجزيرة العربية وعلى يـــٍد عــربــيــٍة مـــن خــيــرة أهــلــهــا فـــي فترة زمـنـيـة مـهـمـة كــانــت فـيـهـا مـكـة املكرمة محورًا استراتيجيًا حضاريًا وسياسيًا واقـتـصـاديـًا وثقافيًا وملتقى للقوافل الــتــي جــــاءت لـلـحـج والـــتـــجـــارة، والتي قلت في محاضرة أكسفورد إنها وفرت وسيلة تواصل عاملية مثل ما تقوم به الـشـبـكـة العنكبوتية، مـمـا شـكـل كيانًا ذا قـوة سياسية متنامية وسـاعـد على انـتـقـال رســالــة اإلســـام والــقــرآن الكريم بـلـغـتـه الـعـربـيـة الــراقــيــة الــتــي تطورت عبر آالف السنن حتى نزل بها القرآن الــكــريــم إلــــى أرجـــــاء املــعــمــورة كـــل ذلك يـؤكـد أن اإلســـام العظيم لــم ينشأ من أرض مفرغة من الحضارات أو املعرفة أو األخـــاق أو القيم العربية األصيلة مصدقا لقول الـرسـول صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت ألتمم مكارم األخاق" التي كان العرب ينتمون لها ويعتزون بها. فــــي الـــخـــتـــام أقــــــول أنـــنـــا نــنــظــر إلى املستقبل واثقن بالله تعالى إن شاء الـلـه بــأن شعب هــذه األرض املباركة قــادر بمشيئة الـلـه تعالى على بناء مستقبل زاخــــر بـالـخـيـر واالزدهــــــار، األرض الــتــي شــهــدت أحـــداثـــا مهمة عــبــر أطـــــوار الــتــاريــخ وتــشــاهــد ذلك اليوم وتقاطعت عليها الحضارات، ما دام هذا الشعب ثابتًا على املبادئ الـسـامـيـة والــرســالــة الـتـاريـخـيـة التي حققت له الخير واألمن واالستقرار.