دقة قدمية!
اعـتـدنـا منذ الصغر ومـنـذ نعومة أظـافـرنـا، طبعا هــذا التعبير ال «يمط» للحقيقة بأي صلة، فأظافر جيلنا لم تمر بالنعومة إطالقا، ما عـدا لقلة ممن أعطى ربــي، نعود ملوضوعنا والـعـود أسعد، وال تــروحــوا بعيد أقـصـد بـالـعـود، أي الكبير فـي الـسـن والــكــالم «إلك» يـاجـارة، والـجـارة نعني بها حضرتنا، املهم اعتدنا وتربينا على عـــــادات وتــقــالــيــد، وأنــــا أشــهــد أن مـعـظـمـهـا، خــصــوصــا مــا يتعلق بالسلوك االجتماعي، كانت من أجمل وأرقى العادات، ومجمل وصف لها، هـو أن الحي أو الـحـارة تنعم بـــاإلدارة الـذاتـيـة، فـاألخـالق هي سيدة املوقف، والعيب هو األداة التنفيذية، والسيف القاطع لدابر من قد تسول له نفسه أو نفس غيره أن يتجاوز على فالن أو فالنة من الناس ولـو ببنت شفة، خصوصا إذا كانت بنت الشفة كبيرة أو فيها إن ولـو شوية مرقعة، هكذا كانت مسيرة املجتمع املدني، كان يسافر الرجل من الحي في رحلة البحث عن لقمة العيش التي ممكن تجي وممكن كمان ما تجيش، يذهب الرجل وبيته ال يوجد فيه إال زوجته وربما بعض «البزورة» الذين لم يشتد عودهم الذي يــدوب نبت وبــان من شـدة الحال ومصاعب املعيشة، ولكن يسافر وهو مرتاح نفسيا أربعة وعشرين قيراط، ألن أهله تحت رحمة الله، وبني أياد أمينة من كل أبناء الحي، خصوصا الجيران الكمل الذين ال تهنأ لهم اللقمة حتى يطمئنوا أن جيرانهم قـد رووا ظمأهم، وكـسـروا حـدة الجوع على األقــل، في ذلـك الزمن الصعب والجميل في نفس الوقت وهو صعب ألن الكثير من تسهيالت العيش لم تكن متوافرة كالتكييف والنقل الخ، وجميل لبساطة الحياة حيث كانت اللقمة الحلوة تكفينا، في ذلك الزمن كانت أنظمة التأمني والتكافل وحقوق اإلنسان كلها غير موجودة على الورق وبالقرارات، ولكنها مفعلة على أرض الواقع وحب الناس لبعضها، والشعور املتأصل داخل قلوبهم وعقولهم بأن املؤمن مع املؤمن كالبنيان املرصوص إذا اشتكى منه عضو تداعت له باقي األعضاء بالسهر والحمى، ولو حركنا عقارب الساعة أو ثعابينها وحطينا الرحال في هذا الوقت لوجدنا حجم الفرق بني ما كنا وكيف أصبحنا، إن كل القوانني التي تنظم السلوك والنظام وكافة العقوبات وكثرة املدارس والجامعات وسهولة قنوات الثقافة املختلفة، كلها لم تستطع أن تفرض على املـجـتـمـع تــلــك الــجــمــل الــرائــعــة مــن الــجــيــرة الـحـمـيـمـة والصداقات الصادقة والعالقات األسرية الدافئة كما لم تقو على تنفيذ أنظمة تعنى بـالـسـلـوك املـجـتـمـعـي، مـثـل مــا كــان متحققا بـقـانـون العيب والحب والشيمة، زمن مضى وزمن نحن فيه، وآت والله يخارج هذه األجيال على خير وبالذات ونحن نقفز وبقوة وبخاصة ملتابعة كل وسائل التواصل عن بعد مما يكرس فقدان دفء الحياة، وبرودة املشاعر والعالقات االجتماعية. وسلم لي شوي شوي على األنظمة وحقوق اإلنسان وإصالح ذات «البني».