Okaz

حرب الشائعات

- مصطفى النعمان كاتب يمني وسفير سابق mustapha.noman@ gmail.com

لن أخوض هنا في قرار هيئة مكافحة الفساد في اململكة العربية السعودية، فتلك قضية متروكة للجهات املعنية تتولى البت فيها بما لديها من قرائن وأدلة، ولكني سأعلق على ما كشفت عنه من سوء استخدام وإلى الكم الهائل من سيل التعليقات في وسائل التواصل االجتماعي والصحف األجنبية. جـــرت خـــالل الــفــتــ­رة املــاضــي­ــة جــلــســا­ت اســتــمــ­اع فــي الــكــونـ­ـغــرس األمــريــ­كــي (لــجــنــة العدل واالستخبار­ات في مجلس الشيوخ، ولجنة االستخبارا­ت في مجلس النواب) مع ثالث من أكبر شبكات املعلومات في العالم، قوقل وتويتر وفيسبوك. كان التركيز منصبا على املوضوع الذي يشغل الدوائر الحاكمة في واشنطن، وهو استخدام روسيا لهذه املواقع بضخ معلومات أخــذت طريقها إلـى املاليني من املستخدمني لوسائل التواصل االجتماعي التي تمتلكها الشركات الثالث الكبرى. لكن الجلسات فتحت نقاشا عاما في اإلعالم األمريكي تناول كيفية التحقق من املعلومات ومعرفة مصادرها وأساليب الكشف عن املستخدمني الذين أصبحت األسماء املستعارة فيها أكثر من الحقيقية، ومرد ذلك أن الساحات املفتوحة أصبحت مجاال خصبا للتفسيرات التي ال تعتمد على وقائع مثبتة، بل عن «تنفيس» لرغبات ذاتية في نشر األكاذيب لتشويه األحــداث بتعمد خال من املنطق وإفــراط في الدفاع أو الهجوم على الشخصيات واملؤسسات وكثير من الدول، وطغى االستخدام السيئ على الغرض الذي ربما كانت تتوخاه الشركات الكبرى في بداية استيالئها على التكنولوجي­ا املسيطرة على الفضاء االفتراضي. قريبا سيصدر (قانون اإلعالنات النزيهة) ستكون الشركات املسيطرة على هذه املواقع املتضخمة ملزمة بموجبه باالحتفاظ في مخازنها اإللكتروني­ة باإلعالنات السياسية املرتبطة باملرشحني وبالقضايا املنشورة وستكون متاحة للعامة، وكذلك يستوجب عليها إظهار املبالغ املدفوعة والجمهور املستهدف، وستكون أي جهة تدفع مبلغا يزيد على 500 دوالر (نعم خمسمئة دوالر فقط) معروفة املصدر والغاية. املتابع العادي الستخدامات املجتمعات العربية لوسائل التواصل يالحظ دون تردد أنها أصبحت مساحة مفتوحة لنقل املعلومات املغلوطة بأسماء وهمية، ومن املثير لالستغراب أن معظم ما يمر في هذه القنوات يتم تداوله كأخبار موثقة تبنى عليها مواقف حاسمة دون بذل أي مجهود للتحقق من صدقيتها، واألكثر مدعاة للدهشة هو اعتماد ما يتوهمون أنفسهم «نخب» على هذه املصادر املشوهة لألجواء والتي تثير شكوكا حول كل ما يدور، والبد أن كثيرين يصرخون بأن هذا أمر يدخل تحت بند الحريات العامة والشخصية وهو صحيح جزئيا، لكنه يتسبب في حدوث أزمات خانقة ويخلق حالة من االضطرابات داخل املجتمعات، وقــد رأيـنـا الكم املـهـول مـن االستخداما­ت التقنية غير املدققة التي يتداولها املستخدمون إلثبات وجهات نظرهم والدفاع عنها، ثم االنطالق نحو تحليل األحداث بناء على املعلومات التي لم يبذلوا جهدا ملعرفة حقيقتها، وينتشر الخبر ويصبح واقعا قد يستند إليه أصحاب القرار النهائي. لم تعد أجواء مواقع التواصل االجتماعي الرئيسية في العالم العربي تتيح فرصة لتفكير هادئ متوازن، وبلغ األمر حد أن املشترك يستطيع شراء أعــداد من املتابعني ليرفع رصيده عند الجمهور، ثم تصبح القاعدة أن األكثر شعبية هو صاحب الرأي السديد، ولربما انطبق األمر على املجتمعات الغربية، لكن الفارق يكمن في أن وسائل التدقيق والتصحيح واملراجعة منتشرة هناك أيضا وبسهولة. وما ينطبق على مجتمع اإلنترنت يمكن إسقاطه على محطات التلفزيون العربية التي أصبحت هي األخرى مشاعا لتوتير األجواء واستدعاء األصوات الصاخبة وعدم االعتذار للجمهور عن األخبار غير الواقعية وال املعقولة، وينطبق األمر ويصير أكثر حدة وخطورة في ذلك العدد املذهل من املحطات التي تروج للمذاهب دون اعتبار أخالقي وال سند فقهي موثق مكتفية بلعن اآلخر وتكفيره والسخرية منه، مشعلة نيران حروب اجتماعية ومنتجة لبراكني لن تهدأ. إن مـن الطبيعي فـي ظـل مناخات بــدون رقـيـب وال حـسـاب انتشار الفوضى تحت مسمى «الحريات» ولكن خطر ما يدور سيكون مزيدا من الكوارث التي تبدأ من الكلمات لتنتهي بدماء ودمـار، وأنا هنا ال أدعو ملنع التعبير عن األفكار ولكن املجتمعات املتخلفة تعليما ووعيا تحتاج إلى ضبط إيقاعات انتشار األكاذيب والشائعات.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia