Okaz

حقوق امللكية و«شيوعية» املنتجات الدينية

- * كاتب وباحث سعودي

-4 انطالقا مـن الـجـدل الفقهي حــول مشروعية أخــذ املؤلف عــوضــا مــالــيــ­ا عـــن مــؤلــفــ­اتــه الــشــرعـ­ـيــة كــتــب الــشــيــ­خ صالح الحصني دراسة بعنوان (هل للتأليف الشرعي عوض مالي؟)، وربما األسئلة املبطنة املثارة من داخل هذا السجال هي: هل يسوغ للمنشغل بالعلوم الشرعية أو الدعوة أن يحقق ثروة مادية من خالل انشغاله بهذا املجال الديني، مع أن املفترض أن عـمـلـه يــقــوم عـلـى اإلخــــال­ص والـــتـــ­ورع عــن املــــادة حـتـى ال يصبح سلعة قابلة لالتجار واالستثمار! أشــــار الــحــصــ­ني فــي دراســـتــ­ـه إلـــى أن غــالــب املــعــام­ــالت التي اسـتـوردهـ­ا العالم اإلســالمـ­ـي مـن الـغـرب قـد «نبتت فـي تربة الـنـظـام الـرأسـمـا­لـي، وهـــذه الـتـربـة مخصبة بـالـقـمـا­ر والربا والـفـرديـ­ة وحـضـور الشح والتغالب، وال محل فيها ملعاني اإلخالص والتقوى واالحتساب، لذلك ال بد - قبل حكم الفقيه على املعاملة - أن يقوم بتحليلها ويتعرف على خصائصها ويقدر مدى تأثرها بمخصبات التربة التي نشأت فيها». برأي الحصني عندما يؤلف شخص مؤلفًا تنشأ ثالثة أنواع من العالقات بينه وبني مؤلفه تجاه الكافة: أ- عالقة ملكيته ملؤلفه، بما هـو جسم مــادي قابل للحيازة وإن كانت قيمته املعنوية واملالية ليست فقط في املادة التي سجلت عليها أفكار املؤلف (الــورق مثال) وإنما في األفكار املعبر عنها بالكلمات املسجلة على املـادة، بل إن كانت هذه األفكار والتعبير عنها هي العنصر األهم في القيمة املعنوية واملالية للمؤلف. ب- عـالقـة شخصية بحتة تتمثل فـي حـق املـؤلـف فـي نسبة مؤلفه إليه واالعتراض على كل تشويه أو تحريف أو تعديل فـيـه أو مـسـاس بـــذات املــؤلــف يـكـون ضـــارًا بـشـرفـه وسمعته، وحقه فـي إدخــال مـا يــراه مـن تعديل فـي مؤلفه وسحبه من التداول ويسمى هذا «الحق املعنوي أو األدبي»، وهذا الحق ليس قـابـال للتصرف وال للتنازل عنه كالحق األول حق امللكية. ج- عالقة مالية تتمثل في مكنة املؤلف من أخذ العوض ممن ينتفع تجاريًا بمؤلفه والتصرف في هذه املكنة، تسمى هذه العالقة «الحق املالي للتأليف». -5 بــمــا أن الــحــكــ­م عــلــى الـــشـــي­ء فــــرع عـــن تصوره، فلتصور الحق املالي للتأليف، ال بـد بـادئ ذي بدأ من معرفة أن هذا الحق مصدره القانون ال الشرع، هذا ال يعني بالضرورة أن هذا الحق ال تقره قواعد الشرع وإنما املراد أن الذي أوجد هذا الحق ويوجده القانون، توضح ذلك الفقرة التالية. -6 لـــم يــكــن الــحــق املـــالــ­ـي لــلــتــأ­لــيــف مــعــروفـ­ـًا قــبــل أن يصبح استغالل املؤلفات تجارة واسعة رابحة بها دور ظاهر في االستثمار، وذلك بوجود املسارح ودور التمثيل ووجود املطابع ودور النشر التي نتجت عنها الـثـورة الصناعية والتجارية في نشر املؤلفات. ويقال عادة: (إن أول قانون صدر بحماية هذا الـنـوع مـن الحقوق، القانون الفرنسي الصادر في عـام م1791 وقـد اقتصر على حماية الحق املــالــي لـلـمـؤلـف­ـات املــســرح­ــيــة ثــم صـــدر القانون الفرنسي فــي عــام م1792 يـمـد تلك الحماية إلى جـمـيـع املــصــنـ­ـفــات األدبـــيـ­ــة والــفــنـ­ـيــة، ثــم تتابعت القوانني األخرى في البلدان املختلفة). وبــنــاء عـلـى ذلـــك، وشــواهــد عـــدة يقرر الــــــــ­حــــــــص­ــــــــني أن: «الــــقـــ­ـوانــــني املــنــظـ­ـمــة لهذا الــــــحـ­ـــــق فـــــــي الــــعـــ­ـالــــم اإلسالمي انتسخت مـــــــــ­ـن الـــــــق­ـــــــوان­ـــــــني الــغــربـ­ـيــة، وهذه األخــيــر­ة وجدت في بيئة النظام الرأسمالي، وفي هذه البيئة تلعب املــنــفـ­ـعــة املادية والـــــــ­ـقــــــــ­يــــــــم­ــــــــة املحسوبة ماليًا الـــدور الــهــام، وفــي ضــوء هذا املـعـنـى تفسر مـقـاصـد وأهــــداف وســلــوك البشر املــحــكـ­ـومــني بـمـقـتـضـ­يـات ومـــؤثـــ­رات تــلــك البيئة، وفـي هـذه البيئة ال يدخل في الحساب واالعتبار أن مـؤلـفـًا يــبــذل جــهــده فــي الـتـألـيـ­ف ال يبتغي إال وجه الله، ويطلب الجزاء اإللهي لقاء نفع الخلق، وأن العلم النافع صدقة جارية إلى يوم القيامة وأن مـــا عــنــد الـــلـــه خــيــر وأبـــقـــ­ى وأجـــــل مـــن أن يستعيض عـنـه ثـمـنـًا بـخـسـًا دراهــــم معدودة، ويـعـتـقـد أن مــا عـنـد الــلــه إنــمــا يــنــال بإخالص النية، ونفي أن يشاب بحظوظ النفس الفانية وإن تعاظم حجم العمل وتأثيره في نفوس املتلقني إنما يكون بقدر ما يضع الله فيه من البركة ولـه من القبول وذلك إنما يكون باإلخالص الذي الحظ للنفس فيه ولذلك كان أشق شيء على النفس». انتقل هذا التأصيل من جانب املؤلفات الشرعية إلى املنتجات الدينية األخرى التي تصدر في قوالب مختلفة، من أشرطة، ومحاضرات، وبرامج فضائية، حول مشروعية أخذ العوض املالي عنها، خصوصا فــي فــتــرة صــعــود الــفــضــ­ائــيــات الــتــي أصــبــح فـيـهـا برنامج «الداعية» واحدا من البرامج الفضائية التي يتقاضى عليها عـقـودا مالية طائلة مثله مثل غيره مـن نجوم الفضائيات التقليديني، وما يترتب على هذه العقود من االحتكار وشراء الحقوق ونحوهما، لذلك حني سئل عضو هيئة كبار العلماء عبدالله بن منيع حول هذا األمر قال: «األصل أن العلم مشاع للجميع وأن تعلمه وتعليمه من أمور االحتساب واالرتفاق وقــد درج الـعـلـمـا­ء عـلـى هــذا املـسـلـك، فتعاقد بـعـض الدعاة والعلماء مع الفضائيات في حصر بثهم في محطة واحدة دون املحطات أو املنابر األخرى ال يجوز سواء أكان ذلك من قبل مالك املحطات أم كان ذلك من قبل املتعاقدين معهم من العلماء والدعاة، وال يقال إن اقتصار العالم أو الداعية على قناة واحدة دون القنوات األخرى ال يعتبر احتكارًا فهو يبث علمه أو دعوته على املأل من خالل هذه القناة، بل يرد على ذلك بأن اقتصارهما على قناة واحدة يعتبر احتكارًا جزئيًا واالحتكار مذموم مطلقًا ســواء أكــان كليًا أم كـان جزئيًا، إذ إن بث العلم ونشره من مجموعة منابر ليس كانتشاره من منبر واحــد يسمعه القليل ويغيب عند الكثير، ومـثـل هذا الـذي تمارسه بعض القنوات اإلعالمية في احتكار العلماء والدعاة ما تفعله بعض البنوك اإلسالمية التي تستصدر من جمعيتها العمومية قرارًا بمنع أعضاء هيئتها الشرعية من العمل في الهيئات الشرعية في البنوك والشركات األخرى التي تريد االقتصار في معامالتها على املنتجات اإلسالمية، فهذا نوع من االحتكار للعلم». ويبقى هذا التأصيل نظريا بعض الشيء بعيدا عن الواقع، يجسد عمق الفجوة بـني املــبــاد­ئ والتطبيق، فالقنوات الـتـلـفـز­يـونـيـة - فــي فــتــرة مـــا- قــدمــت نــجــومــًا مــن فئة «الــــدعــ­ــاة» الــذيــن حــقــقــو­ا مــداخــيـ­ـل عــالــيــ­ة مـــن خالل الـعـقـود االحـتـكـا­ريـة لبرامجهم الـديـنـيـ­ة عـلـى هذه الفضائيات، وهو خط جديد محدث ينافي النهج الكالسيكي للعلماء السلفيني، فحني سئل الشيخ ابن باز حول مسألة (حقوق نسخ األشرطة الدينية) قال: «ال يتحجر، ال يقول ال أحد يسجل هذا الشيء، وال يـكـتـب عـلـيـه مــمــنــو­ع أن يـسـجـلـه أحــــد، أو ال يأخذه أحد، فهذا من باب تحجير العلم».

 ??  ??
 ??  ?? عبد اهلل الرشيد* twiteer @ ALRrsheed
عبد اهلل الرشيد* twiteer @ ALRrsheed

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia