Okaz

«حضرة احملترم» لـ «محفوظ»: صراع اإلنسان في تيه احلياة

اعتذارات

- حنان الحربش* عبداهلل الشهري*

أعتذر من نفسي ألن هذا العالم يلهث راكضًا، وأنا لم أعد أستطيع اللحاق به، ولم أعد أستطيع اللحاق بنفسي، إنها تنسل من بني أصابعي كالرمال، تنجرف مع مخلفات الوقت.. وتأخذني نحو الــزوال نحو التالشي ببطء. أنا اعتذر من ذاكرتي، وقد أصبحت كالفضاء املفتوح الذي تطفو عبر أثيره الذكريات، مجتثة من جذورها، معلقة كاألغبرة، خاطفة كوميض الشهب، مؤقتة كقنبلة تنفجر ثم تختفي.. ثم تتطاير كالرماد وتنبعث كالدخان.. ثم تتالشى وكأنها لم تتخذ حيزًا في الوجود.. أو حيزًا في الحدوث.. لها دوي يجرح جدران قلبي. أنا أعتذر من لغتي.. من املعنى الذي يتسّرب من جيبها املثقوب، من األفكار العارية التي لم تجد بعد كسوتها من الكلمات.. من مفاهيمي املجردة ومن تجريد املفاهيم.. من الجرس املوسيقي املحطم والذي اتسمت به كتاباتي مـــؤخـــرًا.. مــن الــنــشــ­از الــــذي يـخـلـفـه عـاملـنـا الــجــديـ­ـد، في البذاءات املدسوسة في أحاديث اليوم.. لقد صارت اللغة استهالكا في الوقت الـذي كـان من األجــدر بها أن تكون تأمال واستبصارا. أنا أعتذر من كتبي، ومكتبتي؛ يضيق الوقت، وتخونني الذاكرة.. تطول قائمة الكتب.. ويزداد فصل من فصول الجحيم.. أنا ال أقرأ لكي اغتال الوقت..

* ناقد سعودي أنـا اقــرأ لكي تغتال أحـزانـي وأوهـامـي الــقــراء­ة.. أنـا أقرأ لكي استنير ولـكـن كيف يستنير مـن اقتلع الفتيل من قناديله..! أنــا أعــتــذر.. أنــا اعــتــذر لـإلنـسـان الـــذي كنت وأخــشــى من اإلنــســا­ن الــذي سـيـكـون.. لقد تبدلت مـالمـح هــذا العالم، وتجهمت مالمح الناس.. لقد انتقلنا من ثقافة الكلمات إلى ثقافة األرقـام، من وداعة الطبيعة إلى ضجيج املدن املسلحة بالحديد واألسـمـنـ­ت.. وأصـبـح كـل شــيء لدينا بتسعيرة، حتى البشر أصبحوا مواد قابلة لالستهالك.. نــحــن نـسـتـهـلـ­ك ونــســتــ­هــلــك.. مــشــاعــ­رنــا أصــبــحــ­ت أكثر ضحالة.. وفنوننا أصبحت أكثر فقاعية.. لقد أصبحنا مــعــتــق­ــلــني بــــداخــ­ــل ســـجـــون جــمــيــل­ــة وتـــحـــت مسميات مختلفة.. لقد حاولنا استجالب الفراديس السماوية على هذه األرض ولكننا حفرنا املزيد من األقبية والخنادق.. لقد حولنا هـذا العالم إلـى ورشـة كبيرة.. وتحولنا إلى عبيد تقنيني. أنا أعتذر لكل من يدرك أن هذا العالم املجنون يسير نحو الهاوية، لكل من يدرك مآالت هذه البشرية. أنــا أعـتـذر لـهـذا العالم املجنون والـجـامـح.. أعـتـذر آلالم عقلي وجراحي التي تكبر يوما بعد يوم.

* قاصة سعودية روايـــة فلسفية بامتياز، بما تحمله مـن مـغـزى عميق واستبطان لدخائل النفس البشرية املترعة باملطامح واآلمــال، واملفعمة كذلك باألحقاد واملغالبة والـتـنـاز­ع، كتبها نجيب محفوظ سنة ،1973 ومن الغنب أال تحظى هذه القصة بالتنويه واإلشــادة أثناء تكريم األديب بجائزة نوبل. ما الذي تدور حوله الرواية؟ ومـاذا عن أحداثها وما يضطرب في حلقاتها من شخوص غريبة تصيبهم الحياة بنكباتها ويلفحهم القضاء الذي ال لطف فيه بأوجاعه؟ بطل الرواية هو املوظف (عثمان بيومي)، مثال لإلنسان املسحوق الــذي يتطلع للحياة بــروح مفعمة بــاآلمــا­ل وإرادة فــوالذيــ­ة تفلق الصخر، إنسان تشكل من قاع املجتمع، من ملح األرض، من الطبقات الشعبية املطحونة، واستطاع بما يشبه املعجزة أن ينهي الثانوية (البكالوريا)، رغم وعثاء املسيرة وعقبات الطريق.. إن (عثمان بيومي) هنا ليس سـوى (رمــز) لإلنسان بما يعترض حياته من صعاب ومـا يلحقه من أوجاع وما يحيق به من آالم، ولكن هذا الرمز يفعل األعاجيب في سبيل تحقيق هدفه وبلوغ مرماه، ها هو يحوز وظيفة متواضعة في دائــرة حكومية باإلرشيف مع موظفني من شاكلته، وهو ال يرضى بهذا، فطموحه ال سقف له؛ ولذا فهو يضع خطة لبلوغ غايته ومالمسة املجد النهائي، الذي يمثله منصب املدير العام، ترى هل يستطيع بلوغه رغـم بعد الشقة وطــول األمــد؟ إن خطته تجري على قـدم وســاق كما هيأها، فهو يــدرس اللغات ويحفظ اللوائح اإلداريــة ويجامل رؤســاءه ويكمل الجامعة انتسابًا، إنـه يقاتل قتاال ال هــوادة فيه ملصافحة العز ومعانقة املقام املحمود املتجسد في املنصب الرفيع، ال يضيع في هذا وقتًا وال يبدد ماال إال ما إليه ضرورة ملحة، فهو مقتر شحيح، رغم عزوبته، يسكن في العلية في حجرة متواضعة اكتراها من امرأة عجوز، ثم هو يحب جارته الفتاة املليحة (سنية)، وهي ترتقب منه وعدًا بالزواج، ولكن الرجل فكر وقدر فهو رغم الحب يؤثر التروي تحسبًا ملا عساه يعيق آماله ويكبح جماح أهدافه املهيبة، إن معنى زواجه من فتاة وضيعة األصل مثله هو بقاؤه في الحلقة املفرغة التي يبغي صادقًا التحرر منها والوثب بعيدًا عن دوامتها إلى آفاق أرحب وآماد فسيحة؛ ولذا ينسحب بهدوء من ميدان الحب إلى معترك الحياة وأمواجها املتالطمة. كـان يحابي رئيسه العجوز (سعفان) في األرشيف ويتملقه وقـد أعجب بجد صاحبنا وانضباطه فـزكـاه ليفوز بوظيفة أعلى في معارج السلم الوظيفي الــذي يتشوف بلوغ ذروتــه بكل ما فيها من ألالء وبريق، واستطاع بفضل قراء ته الواسعة واستظهاره اللوائح أن يمتلك أسلوبًا مشرقًا ولغة فاخرة وظفها في خدمة رؤسائه الذين كان يترجم لهم ما تتطلبه أعمالهم من مهمات، فيزيدهم ذلك تقديرًا له ولكفاءته ويمهرون التقارير بتزكيته وتعطير سيرته، ولم تكن تلك التقارير حبرًا على ورق، بل كانت تتمخض عن الظفر بالترقية، وليست تلك بالخطوة القصيرة، والحق أنه كان يمضي نحو املجد الذي يتغياه بال عائق كبير سوى الزمن، فالزمن يجري دونما كابح، والشيب يغزو رأسه والتجاعيد تعابثه وتطبع على سيماه ميسمها، وهو يشعر بذلك ويتألم، متلمسًا سبيل الزواج، لكن بخله يقعده عن اإلقدام مخافة أن يعيقه عن مشروعه العظيم، ومع ذلك فهو يتقبل العرض الذي تقدمه جارته العجوز بالزواج من امرأة عانس مقبولة الشكل وموظفة، ما الذي يمنعه من الزواج ويضع الشوك في طريقه؟ إنه ال يدري، ولكنه يتوجس منه خيفة ويتهيب من تبعات اإلقدام عليه. ومجال عمله يعده باملجد، فهو يترقى من فترة ألخرى، والخطة التي رسمها تسير على ما يرام، وإن كان الرتم بطيئًا والسنوات تمضي ال تلوي على شيء، ويومًا يزوره (سعفان) رئيسه في بداياته وقد أحيل إلى التقاعد وتغيرت سحنته إلى هزال مخيف وهو يتوسل إليه أن يقرضه مبلغًا صغيرًا ليعالج به داء استعصى عالجه لقلة ذات يده، فيتعلل صاحبنا بمعاذير كاذبة تخلصًا من الحرج وتملصًا من التبعات وما هي اال أيام حتى يسمع نبأ رحيل رئيسه السابق.. ويتضح له أن زوجه مدمنة، فيندم على زواجه منها، ثم إنها عاقر ال بحكم الطبيعة وإنما بحكم السن، ويفكر في طالقها ولكنه يخشى الفضيحة وقالة السوء واهتزاز مركزه، فماذا عسى أن يصنع؟ ثم هو يتابع مسيره ويقترب من قمة املجد األسنى ومن ذروة هرم اإلدارة وقد أصبحت الترقية مرهونة بمعجزة كـ نقل مدير أو مرضه أو وفاته، ليخلي مكانه ملن هو دونـه، وهكذا تمنى صاحبنا السوء لرفقائه ورؤسـائـه! ألجل أن يحتل مكانه ويبلغ هدفه، ال يردعه في ذلك خلق وال وازع، لقد توحش ضميره واستحال قلبه إلى حجر، فقد كل املبادئ اإلنسانية في سبيل الوصول!، وكأنما أحس الدهر بهواجسه الخبيئة الخبيثة فاستجاب له وأذعن ألطماعه، سرعان ما نقل مدير إلى وزارة، وآخر أنهكه املرض، وثالث صرعه املوت! وأصبح كرسي اإلدارة املقدس قاب قوسني، العرش املذهب واملرصع الذي طاملا تلهف على بلوغه وهفت أشواقه ملقاربته، إنه شاغر والطريق إليه مفروش بالورود، وهو أحق به، وما عاد ينتظر سوى قرار تتويجه باملنصب املحفوف بسنا املجد ووهج األبهة والفخامة. ويترنح يومًا ثم يكب على وجهه، ويجد نفسه بعد ذلك في املشفى وحوله زوجه الجديدة بوجهها الصبيح، ثم ينقلب الى بيته بعد أن تماثل للشفاء حيث اكتظ بيته بالزوار، والواقع أن صحته لم تعد كما كانت وأن نكسته لم تغادره تمامًا، وزاره يومًا املسؤول الكبير وبشره بترقيته ملنصب املدير العام! يا للرجل ما أنكد حظه! لعله أول من يدرك مغزى هذه البشرى، إن هي إال ترضية وإكرام له بـ منصب فخري ال أكثر، فالحقيقة التي ال مراء بها أنه وضع سالحه وترجل عن صهوة جواده.. في هذه الرواية تتجلى عبقرية نجيب محفوظ، فاإلنسان يهفو إلى الرغائب واملطامح ال يثنيه عن ذلـك حائل وال يحبسه حابس، وهـو قدير على فعل املعجزات متى اعتصم باألمل وتــذرع بالصبر واملجاهدة، بيد أن هذا ال يعني التكالب املحموم الذي ال يراعي القيم وال يمتثل لدواعي الخلق الكريم. واإلنسان يتعشق الحياة ويسعى لها سعيها ويجد ويكد لبلوغ غاياته والحصول على أمانيه ساهيًا عن الزمن الذي ال يرحم، الزمن الذي ينطلق بال هوادة وال تلكؤ وال انتظار، جارفًا معه األحالم املنيرة واألمجاد التي تجلب السعادة وتظلل روح صاحبها بظالل وارفة تمنحه ثقة وأمال. واإلنسان الـذي تغلب عليه أنانيته ومصلحته وال يلتفت إلى أخيه اإلنسان مؤثرًا الغرائز البدائية النابعة من وحشيته الضاربة في أغوار التاريخ السحيقة، والتي تشكك في إنسانيته األولى وتضعه إلى جانب الحيوان الــــــــ­ـضــــــــ­ـاري، مـتـجـاهـا­ل القيم واملــــــ­ـــــــــب­ــــــــــ­ـــــادئ بــــكــــ­ل حموالتها املضيئة التي رســـــخــ­ـــت مـــفـــاه­ـــيـــم جديدة حــــاولــ­ــت عـــلـــى مـــــدى التاريخ صـــقـــل هـــــذا اآلدمـــــ­ـــي وتأديبه وتهذيبه ليصبح أهــال لحمل مشكاة األخالق بكل تجلياتها. وهـــــو أحـــيـــا­نـــا -أي اإلنــــسـ­ـــانيرجح تلك القيم ويستعز بها مؤثرًا إياها على كل ما عداها فيحظى بالتوفيق واملسرات، وأحيانًا يغلب غرائزة البدائية عــــلــــ­ى قـــيـــمـ­ــه الـــطـــي­ـــبـــة فيبوء بــالــخــ­ســران والــــنــ­ــدامــــة. وهذه الـــغـــر­ائـــز الـــتـــي اســـتـــو­لـــت على كيان بطلنا جعلته أسيرًا لها وأشاعت بدائيتها في روحه عمومًا فخلقت كائنًا كريهًا اجترح موبقة افتضاض عذراء دون أن يرف له جفن! ولم تقف تلك الغرائز عند حد، فغريزة الشح واإلمساك دفعته إلى النكاح بـ ساقطة ملجرد أنها تكفلت باملهر، والغريزة نفسها دفعته إلى التملص من واجب الوفاء تجاه رئيس وفي منكوب في صحته وماله. إن بطلنا ارتقى في مناصبه ارتـقـاء يحمد لـه، ولكنه انحط في دركــات الرذيلة انحطاطًا ال حد له، انغمس في التهالك على الجمع واملنع، واغتنام الفرص أيان كانت دونما زاجر، ولذا كانت العاقبة على غير ما اشتهى وأراد. ماذا عسى أن يكون قصد الكاتب من تلك الرواية؟ وأي فلسفة تحمل في طواياها أراد الكاتب إبرازها؟ هل يقصد أن الحياة تحمل في طياتها كثيرًا من العبث وأن حصادها ليس سوى هشيم تذروه الرياح مهما بدا لإلنسان شيئًا ذا قيمة وله بريق وعليه طالوة، كل هذا باطل وال غناء فيه، فها هو البطل يفوز بـ غــادة بتول كـ زهر الرمان، وهو يكاد يالمس املنصب الرفيع الـذي طاملا داعب أشواقه واستولى على مناه، وما يكاد املسكني يقطف ثمرة كده ويتلذذ بتلك الثمار الشهية حتى تتدخل يد الشقاء الغليظة فتلطم آماله وتستولي على جناه، إن في ذلك لعبرة سواء عناها الكاتب الجانح للتشاؤم أم ترك حبل تفسيرها للقراء، إنها تذكرة لإلنسان أن حياته ليست بعيدة عن حياة هذا البطل، تبتعد أو تقترب عن رؤاها وأنساقها ولكنها بالنهاية تتالقى معها في خطوط عريضة، وال ينسى الكاتب اإلشارة إلى تصوف (حضرة املحترم) ليستكمل أبعاد اإلنسان حتى زوايا روحه، وال شك أن القصة يمكن أن تقرأ بأكثر من وجه وتلك مزايا أي نص أدبي يحتمل الرؤى بمختلف وجوهها، وأخيرًا فإن القصة من الطراز األول في القصص العربية والعاملية أيضًا. * ناقد سعودي

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ?? غالف الرواية
غالف الرواية

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia