عبدالرحمن الشهري «صعود متأخر»!
«كل ما أفعله هو خلع باب الخشب وإعادته إلى الغابة». ماسيمو موراسو. بهذا التصدير استهل عبدالرحمن الشهري ديوانه الثالث (صعود متأخر) الذي صدر عن دار أثر عام ..2017 عدد صفحاته 56 صفحة ونشر فيه 23 قصيدة نثرية... السؤال/ هل تمثل عبدالرحمن بقول موراسو وأعاد باب الخشب إلى الغابة؟ ملحة أولى على الغالف نرى امرأة منقبة ترتدي زي البادية كمؤشر أول للعودة إلى أصل األشياء وبدايتها... وملحة سريعة ملا بني الغالفني أجد الكتابة الشعرية أتت وكأنها كتابة نثرية بحتة، كانت األسطر مكتملة والفقرات متتالية، وكأنه تعمد أن يعود بالكتابة إلى مكانها الذي بدأت منه؛ مثلما فعل موراسو مع باب الخشب.. لــم يقتصر عـبـدالـرحـمـن عـلـى الـشـكـل فــقــط، املضمون أيــضــا أعـــــاده إلــــى عــفــويــتــه، لــذلــك ظــهــرت النصوص واضـحـة موضوعاتها، بعيدة عـن الرمزية والوعورة التي يتعمدها عادة بعض كتاب قصيدة النثر.. واألهم في هذا الصدد أنه خلص قصائده من القوالب ممثلة فـي الـــوزن والـقـافـيـة. وألن لــدي حـريـة فـي فوضويتي، مثلما كان للشاعر حرية في دقته في ترتيب قصائده واختيار عناوينها وترتيبها في الغابة، لذا سأبدأ من أكثر القصائد التي راقت لي وتفاعلت معها؛ أال وهي قصيدة «فضيلة السهر مـع حمى» فقد كانت لساني عندما هاجمتني الحمى، وعبرت عما كنت أشعر به، وقـادتـنـي إلــى البحث فـي قصائد أخـــرى.. قـد نتجاوز كلمتي (السهر مع الحمى) في عنوان هـذه القصيدة؛ ولكن حتما سنتوقف عند «فضيلة» ونـتـسـاءل؛ ملاذا اسـتـخـدم الـشـاعـر هــذه الـكـلـمـة؟. لــذا ومــن داخـــل النص بـدأت أبحث عن سبب للفضيلة؛ فوجدت عبارات مثل االخــتــالء بـالـجـسـد، الــبــقــاء عـلـى الــفــراش ولــكــن يظهر الـسـبـب بــوضــوح فــي الــعــبــارة األخــيــرة (عـلـبـة سجائر مغلقة لـم أفتحها منذ أيـــام) الحقيقة أنــه سبب مقنع ليطلق الشاعر على الحمى فضيلة، فالحمى نجحت في إيقاف الشاعر عن التدخني حتى لو أليام معدودة، بعدما فشلت كل النصائح والتحذيرات والعبر.. ويـكـمـن اإلبــــداع هـنـا فــي الـتـأمـل وبتعبير آخـــر؛ رؤية املــألــوف بـطـريـقـة غـيـر مــألــوفــة. وتـكـمـن الـشـاعـريـة في طــريــقــة تــركــيــب الـــعـــبـــارات وتـنـقـيـحـهـا مـــن الزيادات والحشو، ووضعها في النسق السليم، واألهـم اختيار الجملة ذات اإلحساس العميق على طريقة: (االختالء بجسدي املحموم). عـبـدالـرحـمـن، يلتقط مـوضـوعـاتـه فــي لـحـظـات عابرة ويــدونــهــا نـصـوصـا لــلــقــراءة.. عـلـى سبيل املــثــال نص (فحص مجاني للعينات) فهو يــدون مشهد العجوز املدفوعة بفضول؛ بطريقته الـخـاصـة.. مـحـاوال قراءة حـركـتـهـا وسـكـونـهـا ونـظـراتـهـا وطــريــقــة استخدامها لعصاتها وتعاملها مع األشياء من حولها واملسببات التي دفعتها إلى ذلك. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال.. ملاذا غير الشاعر عنوان النص؟! فقد نشر هذا النص في صحيفة عكاظ بعنوان (فضول) بينما نفس النص أتى في املجموعة بعنوان (فحص مجاني للعينات) ماذا نقرأ من ذلك.. (فضول) كلمة واحـــدة وفــي املتناول وأعـطـت إيـحـاء بــأن النص قصصي.. بينما العنوان الجديد جملة مكتملة.. ولها داللتها وفلسفتها.. من هذا التغيير نتساء ل، هل كاتب قصيدة النثر يتكئ على عنوان النص بدال من نواته.. وهل العنوان هو من يشكل النص ويسيره ويأخذه إلى الشعرية؟! ربما يكون تساؤال منطقيا يحتاج إلى املزيد من البحث واالستفاضة.. ومن تلك النصوص التي استوقفتني، نص: (فضاء آخر للمجاز)، نص تأملي وقراء ة للنساء في حالتني، األولى عندما (يقبعن داخل العباء ات)، والحالة األخرى؛ عندما (يخلعن عــبــاءاتــهــن)، وقـــارن الـشـاعـر بطريقة تأملية نفسية فلسفية بني تلك الحالتني، (قبل وبعد)، وكأنه ربط الرقة والنعومة وحفيف األرواح بتلك العباءات.. ولكنهن يتحولن إلى كائنات أخرى من دونها.. ورغم أنه لم يذكرها حقيقة، ولكن اإليحاء هنا بأن العباءة تهذب سلوك املرأة وتخلق منها كائنا رقيقا، على غير واقعها العفوي الغرائزي عندما تتجرد منها.. وبقي أن أتــســاءل؛ هـل العمامة أيـضـا تـهـذب سـلـوك الرجل؟! نــصــوص عــبــدالــرحــمــن تـفـتـح الـكـثـيـر مــن التساؤالت والــتــأمــالت.. وهـكـذا تـأتـي بقية قصائد الــديــوان التي تنوعت بني السيرة الذاتية للشاعر والحنني والوقوف على األطــالل، والتعاطف والرثاء وبعض من محطات ومشاهد من الحياة.. أيضا عبدالرحمن يوثق ملرحلة سابقة، فــ بائع الحنا والــديــك األسـمـر والهايلكس الــــ77 ومــولــود يولد على حبات الرمل، قد تستعصي معاني تلك العبارات على جـيـل قـــــادم.! الــغــالــب فــي حـــرف عـبـدالـرحـمـن هــو نبرة الحزن، لغته تعكس التعب واملعاناة، واإلحساس الكبير بالذات واآلخرين، واإلحساس بكم التعب واملشقة التي يتعرض لها البشر فــي رحـلـة الــحــيــاة.. بقي أن أقول: نــصــوص عــبــدالــرحــمــن كـــأي قــصــائــد نــثــريــة ال يمكن للمتلقي قراءتها وهـو مسترخ، فعليه أن يهيئ ذهنه ومزاجه ملثل هذا النوع من النصوص.