الفساد املالي والضمير األخالقي
يـعـتـمـد نـجـاحـنـا فــي مــحــاربــة الــفــســاد واجــتــثــاث جـــــذوره كدولة ومجتمع على تقصي أسبابه، وتفكيك مكوناته كمركب اجتماعي واقـتـصـادي وثقافي معقد التركيب، والتعامل مـع خميرته دون مراوغة أو مواربة! ألسنا املجتمع املثالي وأصحاب األسبقية في الخصوصية، وهل ثـمـة مــن يــجــادل فــي تطبيقنا لــشــرع الــلــه واعــتــمــاد شـعـيـرة األمر باملعروف والنهي عن املنكر منهجًا للبالد طوال نصف قرن، فلماذا تضخمت محافظ هذه الطبقة السميكة إلى هذه الدرجة وما خفي أعظم؟ هل يعود ذلـك إلـى الضمير األخالقي للمجتمع وطبيعة تشكيله عندما خال الوعظ الديني من تناول هذا الجانب وحيده من خطابه العام، واعتمد بدال من ذلك على الشعائر الظاهرة واملظاهر الشكلية فقط، أم أن األمر يأتي في سياقه الطبيعي كنتيجة حتمية لضعف مؤسسات الرقابة على املال العام؟ أم أنه خالف هذا وذاك، ويرجع للفكر القبلي في اإلدارة املتدحرج على الوظيفة العامة، وزارة كانت أو مؤسسة أو هيئة، والتي تعطي صاحبها حق السلطة املطلقة، على اعتبار أن الجالس على هـرم الوظيفة العامة هو شيخ هذه الــوزارة أو املؤسسة أو الهيئة، ولكن بمسمى حديث؟ أم األمر غير ذلك كله ويعود لعدم فك االشتباك بني املـال العام واملـال الخاص، والذي صاحب خلطه هذه الحقبة بهدف خلط األوراق وأن «مفيش حد أحسن من حد»؟ ثم ما هو انعكاس فساد هذه الطبقة على بقية الطبقات الوظيفية الـدنـيـا (الثانية والـثـالـثـة)، وتــجــذره فـي تـجـاويـف هــذه الطبقات، متخذا أشكاال ال يمكن تصورها أو تصديقها، ومدى إخالص هذه الطبقات ووالئها للوظيفة العامة، وهي تفتقد للقدوة الحسنة في من يجلس على هرم الوزارة أو الهيئة أو املؤسسة أو الشركة! وملــاذا يقل هـذا الفساد وبشكل كبير في بعض البلدان التي نقلل من شأنها (عقائديا على األقل)، دون أن ننظر كيف تكون الضمير األخالقي لهذه املجتمعات، متجاهلني هذه الحقيقة عمدا وباملطلق، وهــل يـعـود ذلــك لطبيعة الـبـنـاء النفسي والـتـربـوي واالجتماعي للفرد في هذه البلدان وتشكيل ضميره العام، والذي تبلور خارج األيديولوجيا، أم أنه يرجع لوازعنا األخالقي الذي تشكل جراء هذا الـفـراغ الـروحـي الــذي سقط مـن نفوس البعض، والــذي كــان سبب ومنطلق معظم مصائبنا القائمة! وأخــيــرًا هـل ســوف نعتمد فـي إيـقـاف هــذا املــد الخطير عـن طريق الـحـمــالت ولــجــان الـتـحـقـيـق، أم أن األمـــر ينبغي أن يمتد إلعادة هندسة الضمير األخالقي والقيمي للمجتمع من جديد؟