السجون مليانة
كنت قد قرأت قبل أسابيع قليلة، اقتراحا ألحد الزمالء الكتاب بأن يتم إصدار قرار بعدم سجن املدينني بأقل من مليون ريال، وأن ذلك يعود لكثرة القضايا باملحاكم وازدحــــام الـسـجـون باملحكوم عليهم، والحقيقة أن اقـتـراحـه هذا أجبرني على العودة لقراءة اسمه وتأمل صورته الشخصية ملعرفة الحالة االجـتـمـاعـيـة واملـالـيـة الـتـي انـطـلـق منها هــذا املـقـتـرح الـغـريـب، والـبـعـيـد كل البعد عن هموم املواطن البسيط وعن األوضاع املعيشية لغالبية أبناء البلد األصليني، والذين أكـاد أجـزم بـأن الواحد منهم بمجرد قراءته لتلك الفكرة املتعالية فرك عيونه واقترب من املقالة أكثر وهو غير مصدق الرقم املوجود قبل أن يضرب بيده على جبينه ويرفع سبابته صارخا (الله.. مليون). طبعا لم أعلق في حينه على هـذا املقترح ألن تحرياتي الشكلية عن كاتبه أظهرت بأنه غريب عن ديار القضاء وأنه يتحدث من برج عال، لكنني اليوم مضطر للتعقيب بـعـد صـــدور الـتـعـديـالت عـلـى الـالئـحـة التنفيذية لنظام التنفيذ متضمنة وجــوب حبس املنفذ ضــده فــي حــال كــان الــديــن أكـثـر من مليون ريــال، وهـو ما يعني عـدم وجــوب سجن من صـدر بحقه صك شرعي بمديونية مقدارها مليون أو أقل، وأن هذا متروك للسلطة التقديرية لقاضي التنفيذ وال يمكن لصاحب الحق أن يطلب ذلك استنادا للنظام !! بالطبع أنـا أقــدر الـقـرار الـصـادر وأحترمه، ولكنني أود أن أوضــح بخبرتي الطويلة في مجال املحاماة واالستشارات القانونية واملمتدة لثماني عشرة سنة، أن تحديد سقف املطالبة بسجن املدين بأكثر من مليون مبالغ فيه جدا، وهناك أسباب كثيرة، منها أننا كمحامني نتردد كثيرا في قبول الدعاوى ذات املبالغ التي تصل إلى خمسني أو مائة ألف ريال (مثال) ألن صاحب الحق يشغلك ليل نهار باتصاالته واستفساراته: وش صار بالقضية وليه للحني ما حصلتوا الدين، وشكلكم ما تشتغلون أنتم !؟ وكل هذا ألنه ال يملك إال هذا املبلغ وتجمل فيه أو أنه انضحك عليه في يوم من األيام، وجاء الوقت اللي يحتاجه لتكملة بناء العمارة أو زواج واحد من أبنائه. أما اللي عنده أكثر من مليون فغالبا ما يكون برصيده ماليني ثانية غيرها وبالتالي تجده نــادرا مـا يسأل أو يهتم لها، فضال عـن أنــه دائـمـا مـا يكون مشغوال بمشاريعه أو الهيا بسفرياته، كذلك من بني األسباب التي أراها، أن وضع املدين بالسجن عن املبالغ التي يعتبرها البعض بسيطة عادة ما يكون سببا في سدادها سواء بمعونة من أهله وجماعته أو بتبرع من فاعل خير خاصة في شهر رمضان والعيدين، أما سجناء املبالغ األكثر من مليون فهم الذين اعتدنا أن يطلق سراحهم من السجن لفترة معينة بأمر من القاضي حـتـى يمكنهم الــخــروج والـــرجـــوع لـشـركـائـهـم املـسـتـتـريـن وتــدبــيــر أمورهم بتحصيل جزء من املبالغ املحكومني بها، ذلك أن وجودهم خلف القضبان لسنوات لن يفيد الدائنني بشيء ولن يعيد إليهم حقوقهم. أما محكمة التنفيذ فلتسمح لي أن أقول إن مقياس فاعليتها تجاه املجتمع ليس بمقدار املاليني التي تعلن عن إعادتها للدائنني بني الفينة واألخرى؛ ألن تلك اإلحصائية تحاكي النتائج بالكم ال بالكيف، بمعنى أنه ربما تكون تسعني في املئة من املبالغ املستردة للبنوك أو وكـاالت السيارات أو شركات البيع بالتقسيط، لكن ماذا عن أولئك املواطنني البسطاء الذين تكدست األرفف بملفاتهم وازدحمت األسياب بأجسامهم املنهكة ونفسياتهم املحبطة، هل نأتي اليوم لنصدمهم ونكمل عليهم الناقص بخبر أنه ال يسجن إال املديون بأكثر من مليون، وهل نكافئ باملقابل أولئك املماطلني ونشجعهم على ترقية ممارساتهم االحتيالية إلـى سقف املليون ريــال حتى ال يتعرضوا لعقوبة الـسـجـن ال سـمـح الــلــه، وهــل مــن املـعـقـول أن يتحمل املــواطــن البسيط أيضا فاتورة السجون املليانة فيساهم من خالل إسقاط مديونيته بتخفيض تراكم املساجني !؟
للتواصل أرسل sms إلى 88548 االتصاالت 636250, موبايلي, 738303 زين تبدأ بالرمز 277 مسافة ثم الرسالة