إذا عرف السبب!
ما الذي دفع السعودية أن تتوجه بشراسة إلعالن الحرب على الفساد بالشكل الذي كان. سألت هذا الـسـؤال مــرارا وتـكـرارا في األيــام األخـيـرة، وأعتقد بالرغم من التصريحات شبه الرسمية التي قالت إن التحقيقات وتحري املعلومات عن الفساد بدأت منذ فترة ثالث سنوات، إال أن الــشــرارة الـتـي «عـجـلـت» بـالـحـراك الـقـاسـي والــقــوي واملفاجئ هو «ملف» التجاوزات العظيم، الـذي تم اكتشافه في ما يخص رجل األعمال املثير للجدل في املنطقة الشرقية، الذي ألقي عليه القبض مؤخرا. فهذا الرجل وحـده كـان مثاال صارخا عن حجم الخطر الفعلي الـــذي شكله الــرجــل، وذلـــك بـاخـتـراقـه ملـنـظـومـة الـجـهـاز اإلداري لـلـدولـة واسـتـغـالل نــفــوذه فــي تطويع عناصر تنفيذية قيادية ومؤسسة النقد واملــصــارف لتطويع املــســارات املالية لصالحه، وتعطيل تنفيذ أحكام صادرة من جهات قانونية رسمية. كل ذلك وأكثر كان بمثابة جرس إنـذار عظيم في ما يحصل من قبل رجل متهم باملال القذر وغسل األمـوال وتهريبها وسرقتها والتزوير بأوراق تجارية ورسمية وتعاونه مع شخصيات نافذة مختلفة إذا كان تمكن من اختراق منظومة الدولة اإلداريـة بهذا الشكل الفج والخطير واملــفــزع. كــان هــذا جــرس اإلنـــذار الخطير الذي أطلق يد الدولة للقيام بما قامت به. ال تـــزال الـتـقـاريـر املتخصصة تـصـدر بـحـق دول الـعـالـم الثالث تباعا تحاول نقد وكشف أسباب تخلفها وعجزها عن تحقيق طموحات التنمية، وتختلف نتائج التقارير في بعض التفاصيل ولكنها جميعا تدرك أن هناك مشكلة حقيقية. ولعل أهم محاولة لـفـهـم أســبــاب هـــذه املـشـكـلـة بـــدأ مــن الــكــاتــب االقــتــصــادي وعالم االجتماع السويدي «جنار ميردال» الذي أوضح في كتاب نشر له في عام 1970 بعنوان (تحدي الفقر في العالم) نظرية «الدولة الــرخــوة»، وهــذه الـفـكـرة تكمن فـي أن «الــدولــة الــرخــوة» هـي سر البالء األعظم وأهم أسباب بقاء التخلف والجهل والفقر. ومــا كــان يـقـصـده بــالــدولــة الــرخــوة هــو: كــيــان مــؤســس موجود يصدر القوانني وال تطبق، وذلـك ليس بسبب وجـود ثغرات في هذه القوانني ولكن ألنه ال أحد يحترم القانون أساسا، فالكبار ال يبالون به ألن لديهم املكانة املالية والجاه وما يحميهم منه، والصغار يعيشون على الـرشـوة لتالفي هـذا القانون. كل شيء معروض للبيع والسعر قابل للنقاش. والرسوم والتصريحات والرخص واألذون معروضة للبيع ألجـل مبنى غير نظامي أو الســتــرداد رســوم وضــرائــب أو اسـتـيـراد سلعة محمية أو فرض «حماية» على خدمة أو سلعة ما. القيود واألنظمة ال تفرض إال ألجل مصلحة وبالتالي لكي تكون باب ثراء للبعض بكسرها والخروج عنها. والضرائب والرسوم أساسا ال تحصل بالشكل الفعال املؤثر. واملناصب باتت مطلبا وغاية للناس نظرا ملا ارتبطت به من غنائم مالية واملوافقات والتواقيع تكون «هبة» و«هدية» لألنصار واملحاسيب واألقارب كاستثناء، قروض املصارف التجارية تمنح بالتوجيه وألسباب مجهولة وبأسعار «تشجيعية خاصة» ملن ال يستحقها أصال، بينما يستمر حرمان من يحتاجها بـجـدارة، كل ذلـك كنوع من تكريس إعادة الهندسة االجتماعية في املجتمعات، وهذا الدور قام به بامتياز املسؤول عن وزارة املالية في حقبة الثمانينات امليالدية ومن كان تبعه في مؤسسة النقد واملصارف التجارية. وفي هذا الشكل من «الدولة الرخوة» الفساد هو املسيطر والرشوة هــي األســـــاس، ألن املــنــاخ يـشـجـع عـلـى الــفــســاد وازديـــــاد الفساد يؤدي الى ازديـاد الرخوة. وانتشار الفساد ال حد له من السلطة التنفيذية إلى التشريعية حتى يصل للقضاء والتعليم ومن ثم إلى «أسلوب حياة» أساسي ال يمكن تصور مسار األيام بدونه. ويستمر ميردال في شرحه وتفسيره للدولة الرخوة، ويقول إنها تحول املجتمع إلى كيان طبقي بحت، الطبقة العليا تقوى لتزداد سطوتها على من هي دونها وهكذا حتى تتحول إلى قوة مطلقة وتــامــة. وكــل طبقة يتحول والؤهـــا تدريجيا مــن الـــوالء للوطن إلى الــوالء للعائلة أو القبيلة أو املدينة أو القرية أو املنطقة أو الـطـائـفـة، حـتـى يـتـحـول األمـــر إلــى عـــداوة للصالح الــعــام بشكل مطلق وعـــام، فــال أحــد يـتـحـدث عــن هــذا «الــســر الــقــذر» ألن الكل يستفيد منه بشكل أو بآخر. الكاتب الـراحـل الكبير (أحـمـد بهاء الـديـن) كــان لـه مقال عظيم بـعـنـوان «فـضـائـل الــفــســاد»، قــال فـيـه: إن الــرجــل الـــذي كــان يريد أن يفتح مصنعا ويعرف أن إجــراءات املوافقة عليه ستستغرق سنة كان يدفع رشوة ليحصل على الرخصة في أسبوع فيكسب إيـــرادات سنة من املصنع الــذي يريد إقامته، وهـو طبعا يكسب أضــعــاف الـــرشـــوة، فــالــفــســاد كــانــت لــه مـهـمـة «تــزيــيــت» عجالت اإلنتاج! الفساد هو السرطان األخطر الـذي ينهش في جسد كل خطط التنمية في العالم الثالث، وطاملا لم يتم التطرق إليه بحزم وقوة ستبقى الوعود دون اآلمال. وأختم ببيت شعر ذاتي الشرح وفيه كل العبرة «إذا استشرى الفساد فكل خير يذم وكل مذموم حميد». تطهير مؤسسات الدولة من املناطق الرخوة ومعاقبة املفسدين مع الفاسدين مسألة في غاية األهمية حتى يكتب النجاح الكامل للهدف املنشود.