طفولةبنيمدينتني
كـان يمكن أن يكون لطفل مثلي ولـد في مدينة «املحرق» بالبحرين، في اآلخـر من شهر مارس مــن عــام 76م، وعـــاش فيها سـنـواتـه األولـــى مع والدته في حارة كانت تسمى «فريج البناني»، أن تمتلئ ذاكــرتــه الــطــريــة بتفاصيل الطفولة املبكرة، بتفاصيل املكان: أبنية طينية متعرجة تفوح منها رائحة الرطوبة واألتربة العالقة على أبوابها، حيث غالبا ما تقود دروبها إلى البحر، نساء يدخلن املنزل ويخرجن، مبرقعات ال يبان من وجوههن سـوى أعينهن، يقضني سويعات مع والدتك وجدتك، ويتحدثن بكالم، أنت غالبا ال تفهم منه شيئا، بائع الخضرة الذي يطرق بـــابـــكـــم عـــنـــد كــــل ظـــهـــيـــرة وأنت مـــــشـــــفـــــوع بضحكة تـــــــســـــــابـــــــق خالك «محمد» ألخذ أكياس الخضرة إلى داخل املــطــبــخ، جــدتــك «فــاطــمــة» وهـــي تعطيك نصف دينار لتجلب خبزا من الفرن القريب مع الحليب والروب من البرادة التي تطل على رأس الشارع. كــان يمكن ملثل هــذه التفاصيل فـي املـكـان ذاته أن تعلق في ذاكرة الصبي وتتفرع من شجرها أحــداث وأحـــداث ال تنفك تغطي سماء مخيلته بأوراقها الخضراء، وتنغرس جذورها في روحه وكيانه، لوال إنه في السن السابعة من عمره وجد نفسه فجأة في مكان آخر مختلف، ال يمت إلى املـــكـــان الذي تفتحت عينه فيه إطالقا، لقد انتقل إلى مدينة األحساء مع والدته حيث يسكن والده. الحقا أدرك ذلك الصبي أن أهل والدته انتقلوا من األحساء إلى البحرين، جاء إليها جده «أحمد» مـن أمـه طلبا لـلـرزق واملعيشة منذ األربعينات من القرن املاضي. لـقـد اعــتــادت والــدتــه أن تـظـل فــي مـنـزل والدها حــوالــى ســتــة أشــهــر أو أكــثــر، وعــنــدمــا وضعت الصبي في منزل والدها ظلت مستقرة ألكثر من سنتني أو ثالث ال تبارحه، وكـان والــده يأتيهم بــني حــني وآخــــر، يـقـضـي عدة أيام ثم يعود من
حــــــــيــــــــث أتى. لذلك حـني وجـد نفسه فجأة فـي مكان آخــر، في بيت جده ألبيه «حسن» شعر بشيء من الغربة تــتــســلــل إلـــــى خـــاليـــا جـــســـده، أجـــفـــل كــثــيــرا من مصافحة األشــخــاص: عمه الـوحـيـد «عبدالله» وأبـنـاء عمومته الذين في مثل سنه أو يكبرونه قليال. كان والده يعده لدخول املدرسة لكنه كـان مشغوال باكتشاف املكان الذي شعر وكـأنـه قــذف فيه قذفا أو كأنه سقط في بئر عميقة ومهجورة. في البداية حني كان يمشي مع والده في السوق، أو عندما كـان يذهب مع والــدتــه إلـــى بــيــوت الــجــيــران أو بيوت أقاربه من العائلة كان يتناهى إلى سمعه كلمات تتردد على أفواه النساء أو املارة من الرجال، كلمات مــن قبيل: سكة الــكــوت، دروازة الـخـمـيـس، الـــوطـــاة، شـــارع البلدية، براحة الخيل.. إلخ، حيث في مثل سنه لم يكن يدرك معناها. لكن ما شعر به وأحسه ورآه في نفس الوقت هو املنزل الكبير لـجـده الـــذي كان يـــضـــم أســـــرتـــــني: أســــرة والـــــــده، وأســــــرة عمه، فضال عن جده الذي عـنـده زوجــتــان ولم ينجب من إحداهما سوى والده وعمه. الـبـيـت كــان عبارة عن طابقني تتوزع غــرفــه بــني جهتني يفصل ما بينهما حـــــوش كــبــيــر كان يــســمــى «الــــحــــوي» باللهجةالحساوية، وهــــــــــــــــــــذا الــــــــحــــــــوش ينتهي بـمـمـر طويل عادة ما يكون مسقوفا بـالـخـشـب حــيــث الباب الخارجي للمنزل. كــــــان مــــوقــــع الـــبـــيـــت عند مـــدخـــل الـــكـــوت مـــن الجهة املقابلة لشارع البلدية حيث بداية السوق وضوضاء املارة هـــو مـــا ســـاعـــده فـــي بـــدايـــة األمر على التغلب على الشعور بالغربة. لكنه أيضا من جهة ثانية لم يساعده ذلــك عـلـى التغلغل لـلـدخـول أو اكـتـشـاف حارة الكوت بتفاصيل بيوتها أو طرقها أو مختلف ســاكــنــيــهــا، تــأخــر ذلــــك قــلــيــال فــقــد كــــان يجلس كـل يــوم على مصطبة بــاب منزلهم يتأمل تلك الـــوجـــوه الـــعـــابـــرة، يــتــأمــل مــالمــحــهــم، ضجيج أصواتهم، ويحاول أن يقارن بينها وبني تلك الوجوه التي كان قد رآها حني كان يعيش في مدينة املحرق. حــــني تـــوســـعـــت خــــطــــاه وبـــــــدأ يرتاد املدرسة وتعرف على طرق حارة الكوت وخـــبـــر دروبــــهــــا املـــتـــعـــرجـــة وأصبح لـــه رفــــاق يـلـعـب مـعـهـم ويــنــدمــج في أوســاطــهــم هــبــت ريـــح عــاتــيــة على ذاكــــرتــــه واقـــتـــلـــعـــت تـــلـــك األشجار التي نمت وترعرعت في مكانه األول، هناك في املحرق، ولم يبق شيء منها حتى الجذور غارت في الروح. الحقا في سني عمره الناضجة كان يفسر هذا االقتالع بأسباب أخرى أهمها بالنسبة له ذكرى البحر الــذي تالحقه، وتكاد تهيمن على أمكنة ذاكــرتــه، فهو مـا زال يتذكر تماما بالتفاصيل الــســفــر مـــن مــيــنــاء املـــنـــامـــة إلـــــى مــيــنــاء الخبر والــعــكــس عـبـر مــركــب يـسـتـغـرق أكــثــر مــن ثالث ساعات في عرض البحر. كــانــت مخيلة الـطـفـل طــريــة بـحـيـث هـــذا العالم الـغـريـب عليه تـمـامـا أخــذ بتالليب كـيـانـه كله، واستحوذ على حواسه ومشاعره، وهذا تحديدا مــا جـعـل فـتـرة إقـامـتـه بـالـبـحـريـن، فـتـرة غائمة وكـــــأن األمـــكـــنـــة فــيــهــا مـــجـــرد شــبــح عــبــر فجأة أمامه ورحـل. لكن اآلثـار ما زالـت باقية غير أنه ال يعرف منها سوى إشــارات وعالمات أكثر ما ترتبط بحواسه، فمثال في بعض األحيان غالبا ما يصحو في أيام مراهقته منتصف الليل على حلم تدور أحداثه في عرض البحر؛ إذ يرى نفسه مـمـسـكـا بــــرأس املــوجــة ومــقــلــدا صـوتـهـا وكأنه يريد أن ينقل خبرا عنها للمسافرين الذين معه. أو في مرات أخرى يرى املسافة التي قطعها في طفولته بني خروجه من منزله في حارة الكوت بــاألحــســاء، ثــم وصــولــه إلــى مـديـنـة املــحــرق في البحرين، هي املسافة ذاتها التي تغذت عليها مخيلته. املـــتـــاهـــة والـــعـــزلـــة االنــــــــزواء هـــي العالمات الكبرى التي صنعت شخصيته بالنهاية، وكــــأن مــديــنــة واحـــــدة ال تـكـفـي لــلــقــول: إني ولــدت هنا. فهنا وهـنـاك واآلن واألمــس هو شتات الذات الذي ال يسعه مكان واحد حني أسرد ذاتي. * شاعر وناقد سعودي