نساءبعيون ُمسدلة
اعتالالت وعي الكتاب السعوديني بحساسية القصة القصيرة جدا
«بـأي معنى يمكن أن يقال إن الفلسطينيني موجودون؟ متى أصبحنا شعبًا؟ متى توقفنا أن نكون؟ أو هل نحن في طريقنا إلـى أن نصبح شعبًا؟» ضـمـن إدوارد سعيد هذه األسئلة الوجودية والثقافية في كتابه (بعد السماء األخيرة: حيوات فلسطينية) والــذي استلهم عنوانه من مقطع ملحمود درويش: ُِ َْ
ُِ إلى أين نذهب بعد الحدود األخيرة؟ أين تطير العصافير ََ ََّْ َُ َِ
ََ َُ ُِ بــعــد الــســمــاء األخـــيـــرة؟ أيـــن تــنــام الـنـبـاتـات بــعــد الهواء األخير؟ تتشكل دالالت جديدة ألسئلة إدوارد سعيد عن مفهوم الوجود والكينونة تحت تهديد املحو بــأدوات الهيمنة السياسية، والتي أشعلها تصريح الرئيس دونالد ترمب بنقل السفارة األمريكية إلى القدس. ومع الغضب العربي الــحــدادي، غــاب الـصـوت العربي العقالني عـن الحضور املــؤثــر فــي اإلعــــالم األمــريــكــي وكـــأن هـــذا الــغــيــاب يعكس تـشـظـي وضــعــف الــعــرب بـسـبـب مــا اعــتــراهــم مــن نوبات االنقسام اإلرادي والالإرادي. وفي ظل صمت دامس، صدح فجأة صوت الدكتورة حنان عشراوي املميز نبرة وطرحًا والــتــي كـانـت املتحدثة الرسمية للمنظمة الفلسطينية فــي مــفــاوضــات الــشــرق األوســــط ومــحــادثــات الــســالم في أوائـــل التسعينات. حينها كــان اسمها يــتــداول لتحظى بشعبية في الرأي العام األمريكي. ال سر يخفيه نجاحها: استطاعت التحدث عن قضيتها بمعرفة، وأجادت أسلوب الدبلوماسية الثقافية والــحــوار بتقديم الحجة القوية والواضحة. لكنها غابت واختفى تقريبا معها ذاك األثر الـكـبـيـر الـــذي خلقته فــي دوائــــر الــــرأي مـمـا يـبـرهـن على عدم استدامة املساعي العربية في تكوين حضور مقنع فـي اإلعــالم وخـاصـة فـي أمريكا ألن مـا يحدث عــادة هو توظيف الجهود في وقـت األزمــات على أن يمثلها وجه أو وجـوه قليلة. وأستطيع أن أشبه الظهور العربي بمد البحر الذي يرتفع وقتيًا، لكنه سرعان ما ينحسر فينساه من رآه. وباإلمكان القول إن الظهور ثم االختفاء مؤشر سـاطـع عـلـى فـشـل املــحــاوالت الـعـربـيـة فــي الدبلوماسية الثقافية وإسـتـراتـيـجـيـات الـتـواصـل مــع أمـريـكـا والدول األوروبية. هنا ال أنسى أصوات الجيل الجديد من النساء العربيات والفلسطينيات املتميزات في الثقافة والسياسة وحقوق اإلنسان ولكن أغلب جهودهن فردية ال تستطيع وحدها التأثير على الرأي العام. باإلمكان ربط هذه املقدمة بتمثيل املــرأة العربية بشكل عـــام والــســعــوديــة بـــالـــذات وخــاصــة أن نــقــاش القضايا العربية في الصحافة األمريكية يتم اختزالها في معاناة املــرأة في معظم األحـيـان كما ناقشت في مقاالت أخرى. وإلى هذه اللحظة، يستمر الجدل حول تمكني املرأة السعودية «املقهورة»، ولم يتغير الكثير فـي تمثيلها فـي الخطابني: اإلعالم الغربي واملحلي؛ وما يحمالنه من رمزية عالية بحاجة إلى دراسـة مقارنة تطرح تحليال عقالنيًا بعيدًا عـن الثنائية التي أنتجت امرأتني: امـــرأة بـإيـحـاءات وألـــوان اللوحات االستشراقية حيث النساء يمكثن في سكون شرقي، ولــذة مؤجلة، ليرنو الخطاب الغربي ويصور نــــســــاء بــــعــــيــــون مــــســــدلــــة كما جسدتها لوحة الفنان الفرنسي أوجــني ديــالكــروا، «نـسـاء الـجـزائـر فـي مكانهن الحميم» والتي رسمها في عام ؛م1834 عيون النساء فيها ال تنظر للرائي الغربي الذي تخيلها هكذا مسرنمة ومثقلة بكل التصورات التاريخية عن املـرأة الغافية في قهر متخيل تم إسقاطه على الرجل وثقافة عربية وإسالمية لتظهر وهــي تـنـادي بطلب اإلنــقــاذ مـن الــغــرب، بـل أكـثـر مـن هذا نــــرى أن تــمــثــيــالت املـــــرأة الــســعــوديــة فـــي الــصــحــافــة في أمـريـكـا وأوروبــــا أخـفـقـت فــي إظــهــار أنـهـا ليست واحدة في معاناتها والجبهات التي تصارع داخلها وأمامها. أمــا الخطاب اإلعــالمــي املحلي فكشف عـن امـــرأة لـم تبرأ مــن إســقــاطــات الــســيــاق االجــتــمــاعــي املــرتــاب فــي عالقته بـالـغـيـر، وتـتـخـاصـم عليها الــتــيــارات والـــعـــادات فتظل عالقة ألن الفضاء ال يتسع لكل ما تريد بل يعاد تكرار التهمة لها وملن يحاول أن يتماهى مع قضاياها التي عـقـدهـا التأجيل واللغط أكـثـر مما عجل فـي حلها. اذًا صورتان نتاج تمثيالت عالم اللغة ولم يبق إال املسافة بني امرأتني اغرورقتا بضجيج الكالم، وهنا في املنتصف، سأكتب عن املرأة التي أعرف ورأيت: هـــي لــيــســت واحــــــــدة، مـــنـــفـــردة. لــهــا تـــجـــارب بأبعاد ثقافية وإنـسـانـيـة متنوعة؛ وحـكـايـا نـسـاء الصحراء واملــدن والقرى تدهش بثرائها، والتحديات التي مرت بها طـوائـف النساء ال يعرفها الـــرأي الـعـام الغربي ولم ينصفها املـحـلـي؛ وبينهما بــدأ اإلعـــالم الـجـديـد بفزعة تقنية جنودها «هـاشـتـاقـات» ولغط طـويـل. فـي تجارب و كـفـاح النساء قصص ملهمة وأخـــرى مـؤثـرة ال نعرف منها وعنها إال القليل ألن اإلعـالم ال يرى إال ما يريد أن يثير ويصدم تحفظ القراء به، لذلك لن نقرأ عن البدوية dr.amirah@hotmail.com
تعد القصة القصيرة بشكل عـام مـن أكثر الفنون األدبـيـة قدرة على مالحقة التغييرات وضبط التحوالت فـي أي مجتمع من املجتمعات النامية أو السريعة التطور. والقصة القصيرة جدًا، على وجه الخصوص، ربما كانت أكثر قدرة على مواكبة ليس فقط املتغيرات، بل حتى إيقاع الحياة السريع، تلك السرعة التي تميزت بها التقنية الحديثة، فهي أكثر تكافؤًا مع طبيعة عصر التكنولوجيا السريع واملـتـوتـر، حيث إن «أنــمــاط الـسـرد اليوم صــارت تفصح عـن طريقة أخــرى لـرؤيـة وفهم العالم»(فوكلير، .)2009 إلــــى جـــانـــب ســـمـــات أخـــــرى فــنــيــة تــتــمــيــز بــهــا القصة القصيرة جدًا كالتكثيف واالقتصاد اللغوي وحـذف العناوين واالكتفاء بالضمائر عوضًا عن األسماء وتعتيم الزمان واملكان، والتخلي عن تفاصيل األحداث باللحظة أو املشهد، وعن أوصاف الشخصيات بوميض املالمح املقتضبة والتركيز على الفكرة.. وغيرها من خصائص فنية تجعلها موائمة لوضع املستهلكني الجدد لألدب الذي تنمطوا بعامل السرعة في القراءة للنصوص الــقــصــيــرة، ومـــواءمـــة كــذلــك للنشر عـبـر الــوســائــط اإللكترونية املـشـاعـة حـالـيـًا. السـيـمـا ذات املـسـاحـة املــحــدودة مـثـل «تويتر» ووســائــل الـتـواصـل االجتماعي األخـــرى الـتـي ال تستدعي وقتًا مطوال في القراءة. ليست مـحـدوديـة الكلمات وحـدهـا هـي السبب، فمجمل مواقع الــتــواصــل االجــتــمــاعــي عــلــى اخــتــالفــهــا تــؤكــد حــضــور املتلقي على نحو فاعل، تمامًا مثلما «القارئ» حاضر بقوة في القصة القصيرة جدًا، إذ يلعب الدور املحوري في تشكيل املعنى، الذي عادة ما يكون ملغزًا، في هذا الفن تحديدًا «يعد القارئ هو البطل فـي القصة القصيرة جـدًا ألن نجاح التلقي رهـني بمدى قدرته على اإلمساك بتالبيب معاني القصة، وهي تمارس عليه لعبة اإلغواء املتمنع، تريده أن يتلبسها وفي اآلن نفسه تتحجب عنه» (مسكني، ،2011 .)46ص فمنهج القراءة وجمالية التلقي يؤكد على أن «الـذات املتلقية قـادرة على إعـادة إنتاج النص بوساطة فعل الفهم واإلدراك، ومتمكنة بذلك من تكثير املعنى وتشقيق وجـــوه ال نهائية مــن بنيته، مما يجعله قـــادرًا على الديمومة والخلود بفعل الحوارية املستمرة بني بنية النص وبنية التلقي» (صالح، ،2002 ص .)52 ثمة ما يبرهن على تغيير أنماط املستهلكني الجدد لألدب، وتغير أنماط القراءة والعادات الذهنية في التلقي. إذ ينبغي االعــتــراف بــأن قـــارئ املستقبل، على وجه الخصوص، «لن يكون بنفس الطواعية والتلقائية و االتكالية الــذي اعتدناه في السابق. فستتحول وتتبدل العالقة التقليدية بـني القارئ والكاتب وكذلك مع الناشر، فهي إن كانت في اتجاه واحد حتى اآلن ويغلب عليها طابع التلقي السلبي، أي نـمـوذج األســتــاذ بالتلميذ، فستكون مستقبال تفاعلية )Interactive( بـل ومـتـعـددة الـجـوانـب من خـــالل مـجـمـوعـة مــن املـسـتـفـيـديـن )User Groups( وســتــقــوم عــلــى االتــــصــــاالت اإللــكــتــرونــيــة السهلة والسريعة...» (بشارة، ،2004 ص .)80 املستهلكون، عــادة، هـم مـن يجبر العالم على التغيير لتحقيق مطالبهم، باقتراح أنماط جديدة قابلة لالستهالك، وأكثر مواءمة للزمن الذين يعيشون فيه. هــنــاك «تــقــالــيــد» أدبـــيـــة مـــحـــددة تــؤطــر كـــل جنس أدبــي عن غيره من األجـنـاس، و نستدعيها لفهمه وتحليله وتقويمه. ومهما اختلفت تلك التقاليد إال أنها تظل في مجمل االتفاق العام املعيار الذي يدرج النص األدبي تحت نوع إبداعي بعينه. تـعـد الـقـصـة الـقـصـيـرة جـــدًا واحــــدة مــن األجناس السردية «إن جاز لنا تسميتها بذلك» التي تعاني قلقًا فـي تحديد املـالمـح الفنية الـتـي تميزها عن غيرها مـن فنون الـسـرد، هــذا إذا تـجـاوزنـا مسألة الـتـي تجيد الـجـدل قــوال وشـعـرًا حتى فـي نقاش الشأن العائلي؛ أو األم التي ال تقرأ أو تكتب و ربت عددًا من األبناء والبنات حتى أصبحوا حاصلني على أعلى الشهادات في تخصصات عــدة؛ لـم نسمع عـن املــرأة التي تخرجت من الــجــامــعــة وتـــتـــحـــدث اإلنــجــلــيــزيــة بطالقة مذهلة وتبيع أسـاور وخواتم أنيقة على أرصـــفـــة ســــوق طــيــبــة فـــي الــــريــــاض، بل أنها تتحدث بمهنية عالية، متفوقة بـــذلـــك عــلــى بــعــض الـــبـــائـــعـــات في املــدن الحديثة ليخبرنا الهامش/ الـــرصـــيـــف حــكــايــة كـــفـــاح آخــــر ال تصلنا بعيدًا عن نبرة الغنب املــعــتــادة؛ أيــضــًا لــم نتعرف على الشابة الـتـي تكتب فـي مدونتها مـقـاالت ذات عــمــق تـحـلـيـلـي وتـــواصـــل مـتـمـكـن مـــع املنتج الثقافي واملجتمعي حتى لـو أن أحدًا تــرجــم مـقـالـة لـهـا لحظيت بأن تتصدر صفحة الــــــــثــــــــقــــــــافــــــــة فــــي صحيفة
ًً االختالف في االعتراف بها أصال كجنس أدبي ( .) وعلى الرغم مـــن ذلـــك إال أن ثــمــة خــصــائــص فـنـيـة عــامــة يـمـكـن مـــن خاللها التأصيل لهذا الفن عن غيره من الكتابات. هناك األركان األربعة التي تنهض عليها القصة القصيرة جدًا، وهـــي «وحــــدة الــفــكــر واملــــوضــــوع»، «الــتــكــثــيــف»، «القصصية»، «الــجــرأة»، (الـحـسـني، ،2000 ص33 - .)39 فمن ناحية «وحدة الفكر واملــوضــوع» فمن البدهي أن بنية القصة القصيرة جدًا تميل ال تحتمل تشظي األفكار أو املوضوعات، فهي باألساس تـعـتـمـد عــلــى وحــــدة الــتــأثــيــر فـــي املــتــلــقــي كـبـنـيـة أســاســيــة. أما «التكثيف» فإن من مقتضياته االقتصاد اللغوي الشديد، وهو أمـــر يـسـتـدعـي، أحــيــانــًا، وضـــع عــالمــات الـتـرقـيـم فــي الــنــص، أو التفتيت، أو الفراغات التي يعبر عنها بالتنقيط. ويتجلى ركن «القصصية» في التركيز على لحظة تحول الحدث أو تتغيير مساره على نحو مفاجئ. فـ«القصصية» في القصة القصيرة جــدًا، كما هــو مـعـلـوم، ال تـأخـذ كــل مــا فــي القصصية من عناصر، بل إن هذه القصصية قد تتجلى في حوار قصير، أو تــبــدل فـــي املــشــهــد، أو رصـــد لــحــظــة، أو تــوثــب حــــدث. كذلك الشخصيات يتم تقديمها وهـم في لحظة فاعلة أو تغير، دون تـقـديـم أوصــــاف مفصلة إال بــقــدر مــا يــخــدم اإليــحــاء (الحسني، ،2000 .)34ص كما أن «الجرأة» بوصفها الركن الرابع من أركان القصة القصيرة جدًا، تحمل في طياتها أبز سمة ترفع من أسهم كفاءة القصة القصيرة جدًا، حيث الجرأة في الغوص في معنى قد يبدو من املحظور أو املتردد الخوض أو مجرد التماس معه على أرض الواقع. فضال عن تلك األركان األربعة التي تقوم عليها القصة القصيرة جـــدًا، بـحـيـث ال بــد مــن تــوفــرهــا كبنية فـنـيـة أســاســيــة، فـــإن ثمة عناصر أخــرى تجسد مالمح هـذا الفن بشكل أو بآخر، بتوفر أحدها أو أكثر في النص الواحد. منها «املفارقة» و«الترميز» و«اإلدهاش» و«عمق األثر». إن املفارقة في األساس تعبير عـــــن مـــعـــنـــيـــني نـــقـــيـــضـــني في الــوقــت نـفـسـه، وهـــي توحي بـكـشـف حـقـيـقـة هـــذا العالم الـــذي يــقــوم فــي مجمله محلية أو مساحة في صفحة اآلراء في الواشنطن بوست أو النيويورك تايمز؛ وال أدري إن كان لدينا إحصائيات بالعائدات مـن االبتعاث وتخصصاتهن الـجـديـدة؛ وكم عدد الشابات الالتي يتطوعن بحماس للتدريب أو أمال في الحصول على وظيفة؟ ولم نقرأ عن مديرة الطوارئ في مستشفى كبير تدير العمليات اإلدارية واإلكلينيكية بصمت وبعيدًا عن األضــواء وتسويق أنها «أول طبيبة فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي هـــــــــــــــذا على التناقضات املثيرة للدهشة واألسى (سليمان، ،1999 .)32ص يرى البالغيون الجدد أن املفارقة ال تخرج من صيغ ثالث: الباث يقول شيئًا بينما هو يعني شيئًا آخــر، الباث يقول شيئًا بينما شـــيء آخـــر يـفـهـمـه املــتــلــقــي، الــبــاث يــقــول شــيــئــًا، بـيـنـمـا يــقــول في الوقت نفسه شيئًا آخر. (سليمان، ،1999 .)18ص ويقصر «ماكس بيربوم» املهمة األساسية املفارقة بقوله «إحــداث أبلغ األثـر بأقل الـوسـائـل تـبـذيـرًا» فيما يعد الــرمــز مــن أوســـع الــــدالالت أفـقـًا فيما ترمي إليه األلفاظ من إيحاء ات ومعاني يعول عليها املتلقي كثيرًا في فهم النص. أما «اإلدهـاش» و «عمق األثر» فهما نتائج جدارة توظيف كل العناصر السابقة و املتوقع تحققها في املتلقي. كـان من البدهي أن القلق الــذي تعاني منه القصص القصيرة جـــدًا فـــي تــحــديــد مــواضــعــات أدبـــيـــة صـــارمـــة عــلــى مـــن يمارس كتابتها أحــد أهــم األســبــاب الـتـي أنـتـجـت لـنـا نـصـوصـًا معتلة تـدعـي انتمائها لـهـذا الجنس. وال نبالغ إذا قلنا أن كثيرًا من مــشــاكــل كــتــابــة الــقــصــة الــقــصــيــرة جــــدًا مــثــل؛ الــعــبــث بتوظيف عالمات الترقيم، وافتعال الدهشة، والخلط بني بـوح الخاطرة وكـتـابـة الـقـصـة الـقـصـيـرة جـــدا، وهـشـاشـة الــقــدرة عـلـى توظيف عناصر الرمز والجرأة واملفارقة والتناص واألنسنة واضطراب القصصية، وخلل املشهد والحدث... ناتجة باألساس عن الفهم الحقيقي ملفهوم «التكثيف» في القصة القصيرة جـدًا والوعي بحساسيتها الناتجة عــن هــذا التكثيف، والـــذي بـــدوره أمكنه تحقيق فاعلية الـنـص فـي مقاومة كسل املتلقي، وإسـهـامـه في صناعة املعنى، وهو شأن يحفظ لهذا الفن خصوصيته وميزته التي تمنحه التفرد عن بقية األجناس. إن «التكثيف» في القصة القصيرة جدًا يعد العنصر األساس الـــذي تـنـهـض عـلـيـه، فـهـو الــعــالمــة األبــــرز فــي تشكيل هويتها، وبــالــتــالــي تـمـيـيـزهـا عــن بـقـيـة أنـــــواع الـــســـرد. ويتجاوز الـتـكـثـيـف مــجــرد «االقــتــصــاد الــلــغــوي» ومحدودية الـكـلـمـات، إلــى مـا هـو أبـعـد مــن ذلــك، حيث تـتــآزر كل العناصر األخرى في القصة من فكرة، وحوار، وحدث، ومــشــهــد، وشــخــصــيــات... لـخـدمـة هـــذا الــغــرض. لذلك، استدعى التكثيف واالقتصاد اللغوي الشديد في صناعة نص القصة القصيرة جدًا «السرعة» في قراء تها من جهة املتلقي مع االحتفاظ بعمق األثر وفاعلية التفكير.
لقد كانتالسرعة«السرعة»واحـدةمنالوصايا ََ ََ ُُ املـنـصـب» وغـيـرهـا مــن أفــعــل التفضيل؛ وال أحــد ّّ ََ تعرف ََ ََ وصــــورعــن قــرب رئيسة الجامعة الـتـي تشتعل حماسًا لتطوير التعليم العالي والبحث وتقوم بمسؤولية مؤرقة في مجتمع مازالت فيه فئة تطارد املرأة الناجحة وكأنها تغار على مجتمعها منها! أستطيع أن أستمر في وصف تنوع قبائل نساء ال نراهن قرب حقل البصر وما يروج له لم ينصف كفاءتهن، كفاحهن، أو تنوع املعاناة التي تجعل املرأة تقضم أظافرها غيظًا أو صمتًا. هــــذا االنـــهـــمـــار الــلــغــوي سـيـسـتـمـر غــربــًا وشـــرقـــًا، وبكل محاوالت كشف السرد ونقصانه، ولكن ال بد أن يقابله ما ينقضه، وهذا لن يحدث إال بتغييرات جوهرية تحل قضايا املرأة التي جعلها ثقل الرمز القادم من الصور النمطية تـزداد ضبابية، إضافة إلى التأثير السلبي على حضورها عامليًا والذي مازال بعيدًا عما نريد أن نرى. في اآلونــة األخيرة، بــدأت بعض الجهود في إظــهــار صـــور أكــثــر إيـجـابـيـة مـمـا يختزله الـــخـــطـــاب اإلعــــالمــــي بــضــفــتــيــه العربية والـعـاملـيـة وتقتصر عـلـى عــدد قليل من النساء املرتحالت من بلد آلخـر لتمثيل املـــرأة السعودية الـتـي يتجاوز اختالف تــجــاربــهــا مـــا تــمــثــلــه هـــــذه املجموعة الكريمة؛ وهذا الحضور الخاطف يـشـبـه لــوحــة لــنــســاء سعوديات بــمــالمــح مــتــشــابــهــة تــقــريــبــًا ألن هــذا التمثيل مـا هـو إال جــزء مـن أنماط الــعــالقــات الــعــامــة الــتــي تــتــحــرك فــي فلك األزمات. ليس من الصعب أن يكثف حضور املرأة وخاصة الشابة، فنظرة واحدة على تضاريس اململكة تكشف تنوع تجاربها اإلنـسـانـيـة والــتــي لــو نــقــل بعض منها سـتـسـاهـم فــي إعـــــادة الــعــافــيــة لدورة مبتكرة مــن الـدبـلـومـاسـيـة الثقافية فــي الــقــرن .21 الــتــواصــل مــع اآلخر مـقـتـرن بـالـتـعـرف عـلـى إنسانيتك وتــأثــيــر بــرامــج الــعــالقــات العامة املمسرحة لن يستمر طويال.
* أكاديمية سعودية درست في جامعتي كولومبيا وهارفارد الست ( ) التي اقترحها املؤلف للكتابة األدبية «بما أنني اقترحت في كل محاضرة من هذه املحاضرات أن أوصـي لأللفية املقبلة بقيمة عزيزة على نفسي، فإن القيمة التي أوصي بها اليوم هي كالتالي: في عصر انتصرت فيه وسائل إعالم أخرى أكثر سرعة وذات مجال واسـع للحركة، والتي تهدد بتسطيح وتحويل أي تواصل إلـى قشرة متشابهة ومنسجمة، فـإن وظيفة األدب إذن هــي الــتــواصــل بــني مــا هــو مـخـتـلـف بــمــا أنـــه مـخـتـلـف، دون أن يثلم اختالفه، بل يرفع من شأنه، بحسب النزعة الخاصة للغة املكتوبة» (كالفينو، ،2008 )63ص و«السرعة» في الكتابة األدبية التي يقصدها الكاتب بما يتالء م مــع نـمـط املستهلكني الــجــدد الــذيــن يــتــوقــون لــلــقــراءة السريعة زمن التكنولوجيا التي تقوم في مجملها على اإليقاع السريع لــلــزمــن، لـيـسـت تـلـك الــتــي تـنـتـج لـنـا نـصـوصـًا سـطـحـيـة تافهة، إنما التي تجنح إلى إعمال العقل، مع التأثير السريع والعميق في آن معًا، أو على حد وصفه «الصعقة غير املتوقعة» ممثال لتلك املعادلة، غير الهينة، بالفراشة والسرطان اللذين يرمزان للشعار «أسرع بتهمل» في مجموعة رموز القرن الخامس عشر للكاتب «باولو جوفيو» »Paolo Giovio« (كالفينو، ،2008 ص )65 مشيرًا في الوقت نفسه، إلى أن قرن التكنولوجيا قد فرض «السرعة» بوصفها قيمة قابلة للقياس، ومستدركًا بأن السرعة التي يوصي بها في الكتابة األدبية هي السرعة العقلية، وهي التي «ال يمكن قياسها وال تسمح بمقارنات وال منافسات، وال يمكن أن تـوجـه نتائجها انطالقًا مـن منظور تـاريـخـي. تعتبر السرعة العقلية قيمة في حد ذاتها، في اللذة التي تحدث عند من له حساسية بهذه اللذة. وليس في املنفعة التطبيقية التي تمنحها لــنــا. إن التفكير الـسـريـع لـيـس بــالــضــرورة أحــســن من التفكير املتـــروي، ولكنه يعبر عن شيء خاص يكمن بالخصوص في خفته»(كالفينو، ،2008 .)63ص السرعة «في كتابة وتلقي القصة القصيرة جدا، قيمة عليا فنية تتآزر مع املستهلك الجديد لألدب. إن «التكثيف» ومحدودية كلمات القصة القصيرة ليس باألمر الـهـني. فنجاح الشاعر والناثر «ينجم عــادة عن بحث هــادئ عن الكلمة الصحيحة، عن الجملة، حيث ال يمكن استبدال كلمة بأخرى، عن تقارب أكثر فعالية وكثيف الداللة بني األصوات واملفاهيم. إنني مقتنع بأن الكتابة النثرية ال يجب أن تكون مختلفة عن الكتابة الــشــعــريــة، ألن األمــــر يـتـعـلـق فــي كـلـتـا الحالتني ببحث عـن تعبير ضـــروري، فـريـد، مكثف، مقتضب، وخالد» (كالفينو، ،2008 ص56، .)66 لكن ما تشهده الساحة الثقافية اليوم «املحلية على وجــه الـخـصـوص» مـن نتاج الـقـصـة الـقـصـيـرة جــدًا ال يتحقق فــي كثير مــنــه فـاعـلـيـة الـتـكـثـيـف فــي صــنــاعــة املعنى وفـــي مــقــاومــة الــوعــي الــتــلــقــائــي التقليدي للقارئ في الوصول السريع ملقاصد القصة، وبالتالي إيقاع أعمق األثر في نفسه، أو على حد وصف كالفينو «الصعقة غير املتوقعة». وهــذا مــا يميز الحساسية الـشـديـدة للقصة القصيرة جدا. إن اعــــتــــالالت الـــوعـــي بــحــســاســيــة ورهافة الـقـصـة الـقـصـيـرة جــدًا «حـيـث التكثيف مع عمق األثـر» هو ما أفرز لنا نصوصًا كثيرة عـلـى الـسـاحـة الـثـقـافـيـة، ويــعــود الـسـبـب في كثير من األحيان إلى االستسهال، أساسًا، في كتابة هذا الفن، نابع من االكتفاء بمحدودية الكلمات واالقتصاد الشديد للغة. دون إدراك أن ذلك «االقتصاد» أحد أهم أسباب صعوبة كتابتها، فــأن تـكـون كلماتك قليلة ال يعني مطلقًا أن خيالك محدود.