Okaz

النقد بني الوصاية والهواية

-

لعقود طويلة هيمنت أفكار بعض املتشددين على غالبية شرائح املجتمع الــســعــ­ودي وســيــطــ­رت عــلــى االتـــجــ­ـاه الــفــكــ­ري الــســائـ­ـد فــيــه، وقـــد تباينت طــرق هــذه الهيمنة وتـفـاوتـت درجــة شدتها مـن وقــت آلخــر، حتى وصل بعضها لحد التطرف الفكري واإلرهاب املعنوي واملادي، والذي تجسد في شكل بعض التنظيمات اإلرهابية، التي وجـدت من يتبناها ويمولها ويغذيها من خـارج اململكة، وذلك في محاولة للضغط على مؤسسات الدولة لسن القوانني التي تتسق مع معتقداتها، ومن أجل تشكيل املجتمع طبقًا ملرجعيتها الفكرية، معتمدة في ذلك على تأويل بعض النصوص الشرعية خارج سياقها الصحيح. لفترة طويلة من الزمن كنت أعتقد أن هؤالء املتشددين الذين يسعون لفرض تلك األفكار الظالمية قد نشأوا داخل مجتمعات منغلقة وعانوا منذ صغرهم من قيود اجتماعية قاسية، مما ترتب عليه إعادة تشكيل وعيهم ودفعهم ملحاكاة ما قاسوا منه، لكن ما أثار استغرابي حقيقة أن بعض املنابر اإلعالمية تزخر بالكثير من هؤالء املتشددين، ممن تلقوا تعليمهم ولفترات طويلة في دول غربية، ما توصلت إليه بعد فترة من التفكير أن ما يدفع هؤالء ليس تربية منغلقة أو مجتمعا محافظا، بل طبيعة شخصية تقليدية وفكر محدود، وهم ال يفكرون فيما يسعون لنشره، وال يميزون بني كونه مناسبًا ملجتمعنا الذي نعيشه أم ال، بل إن جل تفكيرهم ينصب على مقاومة أي تغيير مجتمعي بمنطق «حسبنا ما وجدنا عليه آباؤنا»، لقد مثلت هذه الشريحة – على مدار التاريخ– مشكلة حقيقية واجهها ملوك اململكة منذ نشأتها وحتى اآلن؛ حيث سعى هـؤالء املتشددون لفرض حصار فكري متعنت بني جميع فئات وشرائح املجتمع السعودي. لقد حرصت الدولة بكل ما تستطيع لفك هذا الحصار وتفكيكه، وذلك بوسائل وطرق متباينة، وكــان الـهـدف األسـمـى هـو تأسيس اململكة بحيث تكون نموذجًا يحتذى به لـلـدولـة الحديثة الـحـضـاري­ـة الـتـي تطبق تعاليم الـديـن اإلســالمـ­ـي دون غلو أو تشدد، والتي تعد بمثابة نبراس أو منارة تهتدي بها الدول األخرى حضارة وفكرًا، ولعل امللك عبدالعزيز رحمه الله هو أول من واجـه هذا الفكر املتحجر؛ حيث واجـه امللك املؤسس فكرًا يرى أن االستعانة بالتكنولوج­يا الغربية نوعًا من أنواع البدع التي ترقى ملستوى التحريم. وعلى الرغم من إصرار تلك الفئة على فرض آرائها املتشددة والهيمنة على الوضع العام باململكة، إال أن التجارب تلو األخرى أثبتت فشلها وخواء فكرها، وليس أدل على ذلك من قضية تعليم الفتيات، حينما واجه قرار امللك فيصل بإنشاء الرئاسة العامة لتعليم البنات معارضة وقتية من قبل أنصار «تجهيل املرأة»، غير أن األيام والسنوات أثبتت صحة رؤيــة الـدولـة وبـعـد نظرها فـي تمكني املــرأة مـن التعليم ودفعها القتحام سوق العمل، وأصبح هؤالء املعارضون هم أول املطالبني بتعليم الفتيات، ومن أكثر الراغبني فـي التوسع فـي إنـشـاء املـــدارس والـجـامـع­ـات، بـل ومــن أكثر الـداعـني لتوظيف املــرأة في وظائف شتى مناسبة لها لكي تتمكن من إعالة نفسها. من املؤكد أن عصر امللك سلمان هو العصر الذهبي لتطور املجتمع السعودي واالنطالق به نحو مستقبل مشرق إن شاء الله، فاأليام التي نعيشها حاليًا هي أكثر فترة في تاريخ اململكة شهدت انتصارًا للمرأة وتمكينًا لها لنيل حقوقها املهضومة، كما أنه خالل تلك الفترة تم اتخاذ الكثير من القرارات املصيرية املشرقة، فقد زادت الوظائف املخصصة للمرأة كما لم يحدث من قبل، كما تنوعت تلك الوظائف وشهدت اختالفًا نوعيًا، كما يعد تمكينها من قيادة السيارة االنتصار األهم تاريخيًا، أضف إلى ذلك تحرير اقتصاد الدولة من هيمنة النفط وبدء مرحلة جديدة من االعتماد على موارد بديلة، لعل أهمها تشجيع السياحة الداخلية، األمـر الـذي سيقلل االندفاع نحو السياحة الخارجية، مما يعني توفير مليارات الرياالت سنويًا وإنفاقها في الداخل. أتعجب كثيرًا من بعض األصوات التي تسعى بإصرار لتعكير صفو كل ما يتم إنجازه بافتعال ذرائــع شتى، وال استشعر أي نية صافية مـن وراء هـذا النقد تهدف للصالح العام، بل أرى استماتة في اإلصرار على القيام بالوصاية على املجتمع، وفي اعتقادي أن هؤالء املنتقدين يقومون بنقدهم إما من باب الوصاية الفكرية على املجتمع، أو من باب التسلية ونتيجة للفراغ دون وجود هدف جاد من وراء ما يقال، كما أن بعض النقد الذي يصح أن نطلق عليه النقد املتسرع يعد نقدًا شعبيًا، بمعنى أنه نقد ملجموعة محدودة التفكير لم تلم بموضوع نقدها على نحو كاف، وذلك بالطبع لو افترضنا حسن النية. لكن ما يهمنا فعليًا في هذا السياق هو ما يقوم البعض بنشره أو تدوينه ويمكن أن يؤثر سلبيًا على بعض الفئات في املجتمع، فقد يقوم البعض – وفـي إطــار ما يطلق عليه الحرب النفسية – بإعادة ترديد ملا يكتبه بعض ممن قد يعملون لصالح مخابرات بـعـض الــــدول، مـمـن يـؤسـسـون حـسـابـات وهـمـيـة ويــنــشــ­رون تــدويــنـ­ـات بـأسـمـاء مزيفة، ويعمدون للعب على وتر حساس هو وتر الغضب الشعبي، من خالل قيامهم بكتابة بعض التعليقات النارية التي تمس قرارات الدولة، ويقومون من خاللها بإغفال بعض الوقائع أو تأويل بعض الحقائق بحرفية ومهارة، وهذا ما يجب الحذر منه؛ ألننا نمر في تاريخنا اآلن بفترة حرجة وحساسة، وال يجب التهاون مع مروجي الفنت أو هواة النقد، بل نحتاج ملزيد من التعاضد والتكاتف لرفع وعي املواطنني ومــؤازرة القرارات التي تمس حياتهم وتؤثر فيها باإليجاب.

 ??  ?? د. محمد حسن مفتي mohammed@dr-mufti.com
د. محمد حسن مفتي mohammed@dr-mufti.com

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia