«جمال األيام».. سيرة غيرية وأيقونة مثيرة للجدل
ظل الكثير من املهتمن بأعمال الروائية الفرنسية كلودي غاالي ينتظرون روايتها الجديدة، ألنها تكتب بسرية تامة وحساسية كبيرة وتنأى كثيرا عن وسائل اإلعام، وتفضل االبتعاد عن األضواء واالشتغال بصمت. لكن إن كانت الكاتبة قليلة التواصل فإنها كلما سنحت لها الفرصة تتقاسم مع الـقـراء هواجسها األدبـيـة ومشاعرها الفنية بحميمية مرهفة. تـــأخـــذنـــا كــــلــــودي إلـــــى جــغــرافــيــتــهــا التخيلية املخصصة أسـاسـا للمهتمن بأدبها وخبرتها الــــروائــــيــــة، لــتــطــلــعــنــا عــلــى حـــيـــاة فــنــانــة األداء الفني الصربية مارينا أبراموفيتش، الشهيرة بمحاوالتها الفنية التي تتجاوز حدود الجسد، وإمكانات العقل. بحيث جعلت منها بطلة فريدة لروايتها الجديدة «جمال األيام» الصادرة أخيرًا عن دار أكت سود. ويمكن القول إن الرواية سيرة غيرية عن حياة مارينا الفنانة واأليقونة املثيرة لـلـجـدل بـأبـعـاد تجربتها الــوجــوديــة والفكرية واإلنسانية. كــانــت مــاريــنــا أبــرامــوفــيــتــش تــخــاطــب الجميع بجسدها وهي ال تتردد في تعريضه للخطر من خال عدد من التجارب الخطيرة سعيا لتحدي مخاوفها الدفينة املعبرة عن تحديها للشعور بـالـوحـدة والــنــار والصقيع والثعابن وغيرها بـواسـطـة هــذه الشخصية الــفــريــدة الـتـي شيدت معالم الرواية. في قسمها األول تحضر بقوة والدة مارينا، وهي امرأة تبلغ من العمر 43 عاما، تدعى جان، تعيش في قرية سافوا العليا. تحب الطبيعة، وملذات الحياة البسيطة. كانت تعيش على إيقاع طقوس رتـيـبـة. تعمل فــي مكتب الــبــريــد، وهــي متزوجة من ريمي، الذي يشتغل أمن مخزن تعرفت عليه منذ املراهقة. وكانت ابنتاها الشابتان؛ إحداهما تــدعــى مــاريــنــا تــأتــيــان إلـــى الــبــيــت الــعــائــلــي في عطلة نهاية األســبــوع. كــان روتــن الحياة يقود هذه األسـرة الصغيرة دون مشكات كبيرة نظرا لــعــدم وجــــود أي نـــوع مـــن الــتــذمــر أو اإلحباط، سواء على املستوى املهني أو العاطفي. ذات يوم سـتـهـب ريــــاح قــويــة، فــتــؤدي إلـــى إســقــاط وكسر إطار صورة ملارينا أبراموفيتش كانت تحمل في خلفيتها توقيعا مميزا ألستاذ الفن خال رحلة مدرسية إلى باريس، وفجأة سحر الفن الذي نقله البروفيسور إلى طالبته يطفو على السطح. وهنا يطرح سؤال وجودي من يستطيع التغلب على مخاوفه ويجرؤ على التغيير؟
فــــــي هـــــــذه الـــــــروايـــــــة الـــكـــثـــيـــفـــة حــــيــــث تحضر الشخصيات الثانوية بحيوية كبيرة وبحساسية عالية تسحبنا كـلـودي غــاالي داخــل هــذا الحيز الصغير من الحرية حيث كل شيء ممكن. الجذور االجتماعية والتربية العاطفية واملعرفية التي تضعنا أمـام درب وحيد، لكن في خضم معترك الــحــيــاة قــد تــتــاح لــنــا فــرصــة لــلــتــراجــع وتغيير الـــوجـــهـــة واالخــــتــــيــــار. وإذا تركنا القطار يمضي دوننا، فإن الحظ لن يكون إلى جانبنا مرة أخرى. كــانــت جـــان (أم مــاريــنــا) مـــن النساء الـلـواتـي منحن كــل شــيء ألجــل الزوج واألبناء متناسية رغباتها الشخصية التي تريد استعادتها وتحقق ذلـك عن طريق مارينا ابراموفيتش التي تمكنت بــمــا تــمــلــكــه مـــن طـــاقـــة فــنــيــة ســـاحـــرة أن تغير حــيــاة أمــهــا. تمكنت كــلــودي غاالي مــــرة أخـــــرى مـــن بــلــوغ أعــمــاقــنــا وتحريك انفــعاالتنا وتســــاؤالتنا. لــيــســت الـــكـــاتـــبـــة فــــي حـــاجـــة لــلــتــصــنــع في أســلــوبــهــا الــــذي يـصـيـب مــبــاشــرة وجداننا دون تلغيز أو لف ودوران وبتقشـــف ذكي في الــعــبــارات، فإنها تتمكن مـن جــذب انتباهنا وإثـــــارة تـفـكـيـرنـا، لـتـجـعـل الـــقـــارئ مــنــا أكثر ركضا وراء النهاية الحتمية. تقول مارينا في إحدى لحظات إشراقها: «اعـتـقـدت لفترة طويلة أن املــرء يصبح فنانا من طفولة صعبة أو من عيش مأساة أو حرب، أو إذا كــانــت لــديــه مــوهــبــة، ولــكــن األمــــر ليس كما تـصـورت. اإلنـسـان يصبح فنانا ألن لديه حساسية عـالـيـة، وألنـــه يشعر بــاأللــم فــي هذا الـعـالـم. ليست مسألة موهبة وإنـمـا ألنــه غير قادر على العيش مع اآلخرين، وهذا العجز عن العيش مع اآلخرين يخلق املوهبة».