Okaz

جغرافية املوقع.. وتاريخية السلطة

- د. طالل صالح بنان talalbanna­n@icloud.com

مـــــــن الــــصـــ­ـعــــب فــــصــــ­ل شــــكــــ­ل نظام الـــــحــ­ـــكـــــم، فــــــي بــــلــــ­د مــــــــا، والثقافة السياسية الـسـائـدة فـيـه، عــن موقعه الجغرافي وتاريخه السياسي. من أبـرز عوائق نشر الديموقراط­ية، خارج مجتمعاتها الغربية التقليدية، ســـيـــاد­ة الــثــقــ­افــة املــســتـ­ـبــدة فـــي بــعــض املجتمعات القومية التقليدية.. وكــذا العزلة اإلقليمية ملوقعها الجغرافي. ما لم يحدث اختراق حقيقي، سواء بفعل متغيرات عنيفة داخلية أو خارجية، يصعب إحداث تحول ديموقراطي حقيقي في كثير من مجتمعات شرق وجنوب الكرة األرضية. مهما بولغ في االقتراب من شكليات حركة الديموقراط­ية بعيدًا عن قيمها.. أو تــجــاوز عــوائــق عــزلــة اإلقــلــي­ــم، عــن طــريــق تطور وسائط االتصال ووسائل التنقل واملواصالت.. إال أن األمر قد يتطور، مع الوقت، لترسيخ ثقافة االستبداد.. وتشديد خناق العزلة الجغرافية. في املقابل: الـدول املتقدمة ديموقراطيًا، تسود فيها ثــقــافــ­ة سـيـاسـيـة مـتـسـامـح­ـة ال تـحـكـمـهـ­ا قــيــم غيبية أو فـوق بشرية متشددة، وإن كانت تلك املجتمعات ليست بالضرورة غير متدينة، إال أنها تضع فواصل حاسمة بني الدين كعقيدة وجدانية وطقوس سلوكية، وبـني السياسة والـدولـة، كنهج للتعامل مع معضلة السلطة في املجتمع.. وكرمز للهوية القومية للدولة. إال أنــه، بالرغم مـن ذلــك، فــإن التطور الديموقراط­ي، كان تاريخيًا، في معظم تلك املجتمعات واملجتمعات حــديــثــ­ة الــعــهــ­د نـسـبـيـًا بــالــتــ­حــوالت الديموقراط­ية املـلـفـتـ­ة، مــثــل: أملـانـيـا والــيــاب­ــان وإيـطـالـي­ـا وأسبانيا والبرتغال وحتى فرنسا، حدث نتاج ملخاض عسير وعــنــيــ­ف، لــصــراع مجتمعي مــريــر وأحــيــان­ــًا دموي، سواء نتيجة لتحوالت سياسية ومجتمعية داخلية.. أو بفعل: ضغوط وتأثيرات خارجية، بل وحتى غزو أجنبي. في الفترة املاضية، منذ انهيار عهد الحرب الباردة ومنظومة التجربة االشتراكية في شكلها اللينيني املطلق العنيف، تفاءل العالم بمد ديموقراطي جديد يتجاوز تعقيدات األيديولوج­ية.. ويقفز على عوائق الجغرافيا. حدث تحول كبير، في مجتمعات أوروبا الشرقية، بل وفي معقل التجربة الشيوعية اللينينية في روسيا االتحادية، وإن طال -في معظمه- شكليات الـديـمـوق­ـراطـيـة والقليل مــن قيمها الليبرالية، على املستوى الفردي واالجتماعي، كالتسامح تجاه بعض الحريات والحقوق الفردية مثل: حرية التنقل والسفر وإبداء الرأي واعتناق األديان واالتجار وحق امللكية الخاصة واالنتماء السياسي.. وليس بالضرورة على املستوى السياسي، بالذات: آليات وقيم تداول السلطة سلميًا. في روسيا «السوفيتية» سقط نظام الحزب الواحد، وسقطت معه أعتى قالع االستبداد في تاريخ البشرية، إال أن حـراس تلك القالع و«رهـبـان» السياسة بها لم يـسـقـطـوا، وســرعــان مــا خــرجــوا مــن أروقــــة الكرملني وكواليس الدولة العميقة ليجربوا شكال «متحوال» للثقافة الروسية القيصرية، لكن بـ«رتوش» تجميلية ديموقراطية.. وبقيت سلطة الـدولـة وجبروتها، في قبضة مؤسساتها ورموزها «القيصرية» التقليدية، املتشبثة بالسلطة.. واملستأثرة بموارد الدولة. في روسيا اليوم انتخابات رئاسية وبرملانية تقوم على املنافسة الحزبية، التي تعكس تعددية سياسية واجتماعية وأيـديـولـ­وجـيـة، إال أن مـن يشترك فيها ويـفـوز بعوائدها، هـم بقايا فلول النظام الشيوعي الــبــائـ­ـد، الــذيــن خــروجــوا مــن أقـبـيـة ودهــالــي­ــز الدولة الـعـمـيـق­ـة فــي الــكــرمـ­ـلــني، لــيــقــو­دوا مــا أطــلــقــ­وا عليه: التحول الديموقراط­ي في روسيا االتحادية الجديدة، بينما هم -في حقيقة األمر- يؤكدون من جديد على عبقرية املــوقــع، مــن أجــل اسـتـمـرار ثقافة القيصرية التقليدية. يخوض الرئيس فالديمير بوتني جولة انتخابات جـــديـــد­ة فـــي ٨١ مـــــارس الـــحـــا­لـــي، وهــــي تــعــد فترته الـرئـاسـي­ـة الـثـانـيـ­ة، بعد الـتـعـديـ­الت الـدسـتـور­يـة عام ٢١٠٢، الــتــي سـمـحـت لــه بــالــتــ­رشــح، مــن جــديــد، ملرة ثــانــيــ­ة وملــــدة ســـت ســــنــــ­وات.. ولــيــس أربـــــع، كــمــا كان سابقًا. بينما في حقيقة األمر هي الرئاسة الخامسة للرئيس بوتني، إذا ما اعتبرنا فترة الرئيس ديمتري ميديفيديف (٨٠٠٢ - ٢١٠٢)، امتدادًا لعهد الرئيس بـوتـني الــذي حكم ويحكم فعليًا روســيــا، منذ بداية األلـفـيـة الـحـالـيـ­ة. هـنـا: الـرئـيـس بـوتـني يعكس فكرة املــســتـ­ـبــد الــــذي جـــاء بــــــإرا­دة الــشــعــ­ب، امـــتـــد­ادًا لحكم القياصرة فـي روســيــا، الــذي أســس على قيم غيبية. بوتني، إذن يشبه: «الفايثان» توماس هوبز (٨٨٥١ - ٦٧٦١)، الذي أسس لشرعية ملوك إنجلترا املطلقة على اإلرادة العامة، بدال من نظرية الحق اإللهي. مـثـل غــيــره مــن الــحــكــ­ام املـسـتـبـ­ديـن، الــذيــن يربطون مصيرهم بمصير األمة وبقاء الدولة، بوتني يركز، لكن بذكاء ودون أي إشــارة مباشرة لطموحه السياسي، بعيد املــدى. إال أنــه يـجـادل: بــأن وجــوده واستمراره في الحكم هو خير ضمانة لتقدم وأمن روسيا كقوة عاملية عظمى.. وهو، في هذا، كما يزعم: ينفذ وصية خلفه بـوريـس يلسنت (٠٩٩١ - ٩٩٩١)، بــأن يعتني بروسيا! طموح بوتني أن يصبح «قيصرًا» لروسيا مدى الحياة، غير مستبعد، ال سياسيًا وال دستوريًا. الرئيس بوتني، الذي يعكس ثقافة املجتمع الروسي «القيصرية» املناهضة لتحول ديموقراطي حقيقي، امـــتـــد­ادًا ملــوقــع روســيــا الـجـغـراف­ـي املــنــعـ­ـزل والشديد االنغالق والتحصني، يبدو أكثر تواضعًا من الرئيس الصيني شي جني بينغ، الذي دفع البرملان الصيني، أمـــس األول األحـــــد، إقـــــرار تــعــديــ­ل دســـتـــو­ري يسمح لــه بـالـبـقـا­ء فــي الـحـكـم مــدى الــحــيــ­اة. ظـــروف الصني الجغرافية والتاريخية تفرض عليها اإلذعان لسلطة مركزية قوية، بصورة أشد قسوة من تلك التي تتفاعل في روسيا، لدرجة عدم التسامح العنيد ألي شكل من أشــكــال الـتـحـول الـديـمـوق­ـراطـي، بـالـرغـم مــن التحول االقتصادي الهائل الذي تشهده الصني.. وجعل منها عمالقًا اقتصاديًا كونيًا، قام على أسس رأسمالية! روســــيــ­ــا والــــصــ­ــني نــــمــــ­وذجــــان لــثــقــا­فــتــني قوميتني انعزاليتني، فرض واقعهما الجغرافي، النائي الشاسع واملـنـغـل­ـق، تاريخية الحكم املــركــز­ي مطلق السيادة والسطوة فيهما، مما يجعل التحول الديموقراط­ي الـحـقـيـق­ـي فـــي مـجـتـمـعـ­اتـهـمـا أكــثــر صــعــوبــ­ة.. وأقل احتماال، ألجيال قادمة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia