جغرافية املوقع.. وتاريخية السلطة
مـــــــن الــــصــــعــــب فــــصــــل شــــكــــل نظام الـــــحـــــكـــــم، فــــــي بــــلــــد مــــــــا، والثقافة السياسية الـسـائـدة فـيـه، عــن موقعه الجغرافي وتاريخه السياسي. من أبـرز عوائق نشر الديموقراطية، خارج مجتمعاتها الغربية التقليدية، ســـيـــادة الــثــقــافــة املــســتــبــدة فـــي بــعــض املجتمعات القومية التقليدية.. وكــذا العزلة اإلقليمية ملوقعها الجغرافي. ما لم يحدث اختراق حقيقي، سواء بفعل متغيرات عنيفة داخلية أو خارجية، يصعب إحداث تحول ديموقراطي حقيقي في كثير من مجتمعات شرق وجنوب الكرة األرضية. مهما بولغ في االقتراب من شكليات حركة الديموقراطية بعيدًا عن قيمها.. أو تــجــاوز عــوائــق عــزلــة اإلقــلــيــم، عــن طــريــق تطور وسائط االتصال ووسائل التنقل واملواصالت.. إال أن األمر قد يتطور، مع الوقت، لترسيخ ثقافة االستبداد.. وتشديد خناق العزلة الجغرافية. في املقابل: الـدول املتقدمة ديموقراطيًا، تسود فيها ثــقــافــة سـيـاسـيـة مـتـسـامـحـة ال تـحـكـمـهـا قــيــم غيبية أو فـوق بشرية متشددة، وإن كانت تلك املجتمعات ليست بالضرورة غير متدينة، إال أنها تضع فواصل حاسمة بني الدين كعقيدة وجدانية وطقوس سلوكية، وبـني السياسة والـدولـة، كنهج للتعامل مع معضلة السلطة في املجتمع.. وكرمز للهوية القومية للدولة. إال أنــه، بالرغم مـن ذلــك، فــإن التطور الديموقراطي، كان تاريخيًا، في معظم تلك املجتمعات واملجتمعات حــديــثــة الــعــهــد نـسـبـيـًا بــالــتــحــوالت الديموقراطية املـلـفـتـة، مــثــل: أملـانـيـا والــيــابــان وإيـطـالـيـا وأسبانيا والبرتغال وحتى فرنسا، حدث نتاج ملخاض عسير وعــنــيــف، لــصــراع مجتمعي مــريــر وأحــيــانــًا دموي، سواء نتيجة لتحوالت سياسية ومجتمعية داخلية.. أو بفعل: ضغوط وتأثيرات خارجية، بل وحتى غزو أجنبي. في الفترة املاضية، منذ انهيار عهد الحرب الباردة ومنظومة التجربة االشتراكية في شكلها اللينيني املطلق العنيف، تفاءل العالم بمد ديموقراطي جديد يتجاوز تعقيدات األيديولوجية.. ويقفز على عوائق الجغرافيا. حدث تحول كبير، في مجتمعات أوروبا الشرقية، بل وفي معقل التجربة الشيوعية اللينينية في روسيا االتحادية، وإن طال -في معظمه- شكليات الـديـمـوقـراطـيـة والقليل مــن قيمها الليبرالية، على املستوى الفردي واالجتماعي، كالتسامح تجاه بعض الحريات والحقوق الفردية مثل: حرية التنقل والسفر وإبداء الرأي واعتناق األديان واالتجار وحق امللكية الخاصة واالنتماء السياسي.. وليس بالضرورة على املستوى السياسي، بالذات: آليات وقيم تداول السلطة سلميًا. في روسيا «السوفيتية» سقط نظام الحزب الواحد، وسقطت معه أعتى قالع االستبداد في تاريخ البشرية، إال أن حـراس تلك القالع و«رهـبـان» السياسة بها لم يـسـقـطـوا، وســرعــان مــا خــرجــوا مــن أروقــــة الكرملني وكواليس الدولة العميقة ليجربوا شكال «متحوال» للثقافة الروسية القيصرية، لكن بـ«رتوش» تجميلية ديموقراطية.. وبقيت سلطة الـدولـة وجبروتها، في قبضة مؤسساتها ورموزها «القيصرية» التقليدية، املتشبثة بالسلطة.. واملستأثرة بموارد الدولة. في روسيا اليوم انتخابات رئاسية وبرملانية تقوم على املنافسة الحزبية، التي تعكس تعددية سياسية واجتماعية وأيـديـولـوجـيـة، إال أن مـن يشترك فيها ويـفـوز بعوائدها، هـم بقايا فلول النظام الشيوعي الــبــائــد، الــذيــن خــروجــوا مــن أقـبـيـة ودهــالــيــز الدولة الـعـمـيـقـة فــي الــكــرمــلــني، لــيــقــودوا مــا أطــلــقــوا عليه: التحول الديموقراطي في روسيا االتحادية الجديدة، بينما هم -في حقيقة األمر- يؤكدون من جديد على عبقرية املــوقــع، مــن أجــل اسـتـمـرار ثقافة القيصرية التقليدية. يخوض الرئيس فالديمير بوتني جولة انتخابات جـــديـــدة فـــي ٨١ مـــــارس الـــحـــالـــي، وهــــي تــعــد فترته الـرئـاسـيـة الـثـانـيـة، بعد الـتـعـديـالت الـدسـتـوريـة عام ٢١٠٢، الــتــي سـمـحـت لــه بــالــتــرشــح، مــن جــديــد، ملرة ثــانــيــة وملــــدة ســـت ســــنــــوات.. ولــيــس أربـــــع، كــمــا كان سابقًا. بينما في حقيقة األمر هي الرئاسة الخامسة للرئيس بوتني، إذا ما اعتبرنا فترة الرئيس ديمتري ميديفيديف (٨٠٠٢ - ٢١٠٢)، امتدادًا لعهد الرئيس بـوتـني الــذي حكم ويحكم فعليًا روســيــا، منذ بداية األلـفـيـة الـحـالـيـة. هـنـا: الـرئـيـس بـوتـني يعكس فكرة املــســتــبــد الــــذي جـــاء بــــــإرادة الــشــعــب، امـــتـــدادًا لحكم القياصرة فـي روســيــا، الــذي أســس على قيم غيبية. بوتني، إذن يشبه: «الفايثان» توماس هوبز (٨٨٥١ - ٦٧٦١)، الذي أسس لشرعية ملوك إنجلترا املطلقة على اإلرادة العامة، بدال من نظرية الحق اإللهي. مـثـل غــيــره مــن الــحــكــام املـسـتـبـديـن، الــذيــن يربطون مصيرهم بمصير األمة وبقاء الدولة، بوتني يركز، لكن بذكاء ودون أي إشــارة مباشرة لطموحه السياسي، بعيد املــدى. إال أنــه يـجـادل: بــأن وجــوده واستمراره في الحكم هو خير ضمانة لتقدم وأمن روسيا كقوة عاملية عظمى.. وهو، في هذا، كما يزعم: ينفذ وصية خلفه بـوريـس يلسنت (٠٩٩١ - ٩٩٩١)، بــأن يعتني بروسيا! طموح بوتني أن يصبح «قيصرًا» لروسيا مدى الحياة، غير مستبعد، ال سياسيًا وال دستوريًا. الرئيس بوتني، الذي يعكس ثقافة املجتمع الروسي «القيصرية» املناهضة لتحول ديموقراطي حقيقي، امـــتـــدادًا ملــوقــع روســيــا الـجـغـرافـي املــنــعــزل والشديد االنغالق والتحصني، يبدو أكثر تواضعًا من الرئيس الصيني شي جني بينغ، الذي دفع البرملان الصيني، أمـــس األول األحـــــد، إقـــــرار تــعــديــل دســـتـــوري يسمح لــه بـالـبـقـاء فــي الـحـكـم مــدى الــحــيــاة. ظـــروف الصني الجغرافية والتاريخية تفرض عليها اإلذعان لسلطة مركزية قوية، بصورة أشد قسوة من تلك التي تتفاعل في روسيا، لدرجة عدم التسامح العنيد ألي شكل من أشــكــال الـتـحـول الـديـمـوقـراطـي، بـالـرغـم مــن التحول االقتصادي الهائل الذي تشهده الصني.. وجعل منها عمالقًا اقتصاديًا كونيًا، قام على أسس رأسمالية! روســــيــــا والــــصــــني نــــمــــوذجــــان لــثــقــافــتــني قوميتني انعزاليتني، فرض واقعهما الجغرافي، النائي الشاسع واملـنـغـلـق، تاريخية الحكم املــركــزي مطلق السيادة والسطوة فيهما، مما يجعل التحول الديموقراطي الـحـقـيـقـي فـــي مـجـتـمـعـاتـهـمـا أكــثــر صــعــوبــة.. وأقل احتماال، ألجيال قادمة.