كن كما كنت!
مــنــذ خــمــســة عـــقـــود والـــحـــديـــث ال ينقطع عـن تطوير العمل اإلداري واملـالـي والفني خاصة مع وجود بعثات ودورات تدريبية خارجية إلى أكثر الدول تطورًا ونهضة، وتخرج اآلالف فــي مــجــاالت اإلدارة واملـالـيـة والـعـلـوم الفنية وحملهم لـــدرجـــات عـلـمـيـة عــالــيــة، ودخــــــول واســـتـــخـــدام وسائل االتـــصـــال الــحــديــثــة مـــن حـــاســـوب وإنــتــرنــت وغيرهما فـي مجال العمل الـعـام، ومــع ذلــك فلم تــزل الشكوى من «البيروقراطية» تحتل املركز األول في أحاديث املجتمع، وإن حـصـل تحسن فــي األداء فـهـو نسبي وغــيــر شامل وربـمـا على استحياء أو تخوف مـن املحاسبة مـن قبل اإلدارة العليا للجهاز، مـع أن جميع أو على األقــل جل القائمني على الـوظـائـف اإلداريــــة واملـالـيـة والفنية من أجيال جديدة نسبيًا لم تشهد حقبة اإلدارة التقليدية الـتـي كــان املــوظــف فيها يـدخـل ســوق العمل بالشهادة االبتدائية ويتعامل مع املراجعني وكأنه حامل لشهادة الدكتوراه، وقد يجهل اإلنسان وهو «مدكتر» على حد وصـــف الــكــاتــب الــســاخــر عــبــدالــرحــمــن املــعــمــر الرئيس األسبق لتحرير جريدة الجزيرة! فكيف لـم يؤثر العلم والتعليم كثيرًا فـي دورة الحياة اإلداريـــــــة واملـــالـــيـــة، ولـــم يــقــض عــلــى الــعــبــارة الشهيرة «راجعنا بكرا وبعد بكرا وبعد بعد بكرا»!؟ لإلجابة عن مثل هذا السؤال فإنني أضع عدة احتماالت منها ما يلي: أوال: أن املوظف الجديد املتدفق نشاطًا املؤهل تدريبًا وعلمًا عندما يبدأ حياته الوظيفية يجد أمامه «كوكبة» من البيروقراطيني الذين يكونون على مشارف التقاعد، فال يرتاحون ملا يقدمه من أفكار أو يطالب به من تطوير فـيـقـابـل نـشـاطـه وحـيـويـتـه بــاإلهــمــال وربــمــا السخرية كقولهم: «شوفوا األخ جاء يعلمنا شغلنا!» أو الكتكوت يخرج من البيضة وهو يصيح، وربما تحول موقفهم منه إلى عداء وحرمان من االمتيازات الوظيفية. فـــــإذا شــعــر بــالــهــزيــمــة الــنــفــســيــة وجـــاءهـــم ذات صباح مستسلمًا قــال لــه كبيرهم ناصحًا «إذا أردت السالمة والـغـنـيـمـة كــن كـمـا أنــــت!» وهـــي عــبــارة عـسـكـريـة تعني االنضباط ال التجمد. ثانيًا: أن خبرات اإلدارة التقليدية ظلت تنتقل من جيل إلى آخر، فإذا عني أي إنسان في وظيفة إدارية أو مالية وجد في اإلدارة أمة من الناس يحبون الدعة ويتجنبون أي اجتهاد أو تطوير ويـؤمـنـون أنــه ليس فـي اإلمكان أبدع مما كان، فينسى ما تعلمه أو تدرب عليه وانضم إلى «فرقة حسب الله» وقال في نفسه: «وافـق ونافق أو فـــارق!» وهــل يطيق فــراق وظيفة لــم يحصل عليها إال بشق األنفس. ثالثًا: أن يحاول من في اإلدارة تطبيق ما تعلموه وما تـدربـوا عليه ومـا شـاركـوا فيه من برامج تطوير خالل رحلتهم التعليمية والتدريبية في الداخل أو الخارج، ولكنهم يصدمون بعدم توفر إمكانيات مالية وفنية من أجـهـزة ونحوها تساعدهم على تحقيق مـا لديهم من أفكار وطموحات، فـإذا طالبوا بتوفير اإلمكانيات قيل لهم «إن البند ال يسمح»، فإن حاولوا مرة أخرى وثالثة تم تجاهل طلباتهم وربما وضعوا تحت املجهر اإلداري فتكون النهاية أن يصابوا باإلحباط املزمن الذي يجعل حركتهم في اإلدارة أشد شبهًا بحركة «السلحفاة»، فإن جــاءهــم مــراجــع مــع بــدايــة الــــدوام هـتـفـوا قـائـلـني: نعوذ بالله من أول زبون، وإن جاء هم في آخر الدوام استعاذوا من آخر زبون، وهم بني زبون وزبون يأكلون ويشربون ويــقــرأون الصحف وعــن أخـبـار الـريـاضـة يسألون ومن أســعــار املــــواد الــغــذائــيــة يــتــأفــفــون وقــبــل نــهــايــة الــــدوام ينصرفون وهم فرحون!