دبلوماسية الغموض البناء
ُُ في السياسة، أحيانًا: ما يفصح عنه الصمت أشــد وضـوحـًا وبـالغـة مما قـد يظهره الكالم. وفــي فـن الدبلوماسية: ليس إخـفـاء مـا يكره اإلفـصـاح عنه علنًا، يكون أقــل جــدارة فـي الـوفـاء بالغرض مـنـه،ٌ مـن ذلــك الــذي يـبـاح بـه جـهـرًا. فــزيــادة غـمـوض مـا هو معلن ومعروف، يقينًا، أكثر فاعلية من تكرار تأكيد التمسك به، الذي لربما ال يعكس حقيقة توجهات صانعي السياسة الخارجية. مبدأ العلنية في السياسة الخارجية، رغم أهميته التحليلية، في فهم وتوقع حركة السياسة الخارجية لدولة مـا، إال أن األمر ال يقتضي، في كل األوقـات، حصر توجهات السياسة الخارجية للدولة، في ما هو معلن رسميًا من قبل مؤسسات ورمـوز السياسة الخارجية. كما ال يفيد في عملية متابعة حركة السياسة الخارجية، وال حتى فـي عملية استشراف وتوقع ردود الفعل تجاه التطورات على الساحتني الدولية واإلقليمية، في ما يخص املوقف من قضية ما سبق وأعلن عنها، وكأن األمر محسوم وقاطع الداللة بشأنها. لـذا: كثيرًا ما يفاجأ املتابعون لسياسة دولـة ما الخارجية تـجـاه قضية مــن القضايا الـدولـيـة واإلقـلـيـمـيـة، بمؤشرات لــســلــوكــيــات وتــوجــهــات غــيــر مــعــتــادة، دونـــمـــا يــعــنــي ذلك بالضرورة، أن تحوال حدث أو يحدث أو في صدد حدوثه، ملوقف الـدولـة املعلن رسميًا من تلك القضية. حتى أنـه من الناحية التحليلية البحتة: يصعب متابعة أي تحول في السياسة الخارجية لــدولــة، تـجـاه قضية مـا على املستوى الخارجي، انتظارًا إلعـالن رسمي صريح بحدوث مثل ذلك التحول. إذن: القول بضرورة األخذ بمبدأ العلنية لتحليل السياسة الخارجية لبلد ما، بالرغم من وجاهته األكاديمية، إال أنه ال يفيد - في كثير من األحيان - لفهم واستشراف حركة السياسة الخارجية لتلك الدولة ومتابعة تطوراتها. بالعكس: أحيانًا، مــا تستقى إرهــاصــات الــتــحــوالت فــي الـسـيـاسـة الخارجية لـدولـة مـا تـجـاه قضية مـن القضايا الـخـارجـيـة، بمؤشرات تصدر بصورة غامضة ومن فعاليات بعيدة كل البعد عن مؤسسات صناعة السياسة الخارجية الرسمية. صحيح أن التحول من موقف ما إلى موقف آخر تجاه قضية من قضايا السياسة الخارجية للدولة، يحتاج في النهاية إلـى إعالن رسمي يتوج ذلـك التحول، إال أنـه في كل األحــوال، ال يمكن إهمال مؤشرات التحول غير املعلنة رسميًا، حتى ولو جرى نفيها رسميًا وعلنًا. من هنا: فإن كل التحركات غير االعتيادية.. واالتصاالت غير املباشرة.. والتقارير الصحفية.. والتسريبات االستخباراتية، حـــتـــى مــــع مـــحـــاولـــة نــفــيــهــا رســـمـــيـــًا، يــمــكــن مــــن الناحية التحليلية، استخدامها لتوقع أو اسـتـشـراف تـحـول تجاه قضية ما لدولة، عرف عنها موقفًا رسميًا معلنًا تجاهها، لـكـن بـتـحـفـظ تـفـرضـه قــواعــد الـتـحـلـيـل الـعـلـمـي الرصينة، التي تأخذ باملتغيرات الكمية التي يمكن قياسها فقط، ال بـ «النوايا الغيبية» وال التخمينات التحليلية، التي ال يمكن تلمسها وقياسها كميًا، أو إسنادها إلى معلومات موثقة. هنا يكمن الخيط الرفيع بني اإلشاعة والحقيقة. أي توقع بزعم تحول ما في السياسة الخارجية لدولة ما، ال يدعمه دليل كمي ملموس على أرض الواقع.. أو معلومات موثقة قاطعة صحتها، ربما يتضح الحقًا أنـه ليس سـوى مجرد تسريبات املقصود به إرسال رسائل لجس النبض، لقياس ردود األفعال املتوقعة، ال إلحداث ذلك التحول، بالفعل. هنا: يأتي دور الدبلوماسية في بعث رسائل توحي بتحول ما تجاه قضية دولية أو إقليمية، معلنًا رسميًا عن موقف الـوحـدة الدولية تجاهها.. بل وإصــرار دبلوماسيتها على الـتـمـسـك بــهــذا املــوقــف املــعــلــن وعــــدم الـتـفـكـيـر فــي التخلي عــنــه.. األمـــر الـــذي قــد تـفـرضـه مـصـالـح الــدولــة الـعـلـيـا.. وقد يـخـدم إستراتيجية عليا. على سبيل املــثــال: يـسـود الكثير فــي األوســــاط السياسية واإلعــالمــيــة والـعـسـكـريـة، بــل حتى األوسـاط األكاديمية التي تتجاوز أحيانًا املعايير العلمية املهنية الرصينة، االعتقاد، الذي يصل أحيانًا، لحد الجزم: أن إسرائيل تمتلك سالحًا نوويًا.. بل إنها تمتلك 300 رأس نووي!؟ رســمــيــًا: إســرائــيــل تـنـفـي ذلـــك وبـــشـــدة.. بــل وتـعـلـن أنــهــا لن تكون أول من يدخل السالح النووي للمنطقة. تفسير سلوك إسرائيل هذا يرجع ألسباب كثيرة، من أهمها: عدم إحراج حلفائها الدوليني، الذين قد يكونون يعرفون الحقيقة، لكن متغيرات داخلية وخارجية، تمنعهم من استمرار دعمهم إلسرائيل، إذا ما أعلنت إسرائيل رسميًا امتالكها للسالح الـــنـــووي.. أو صـــدر عــن إســرائــيــل دلــيــل مــــادي، يـفـصـح عن إمكاناتها النووية، كإجراء تجربة قنبلة نووية. إسرائيل من جانبها، في صالحها أن يسود االعتقاد لدى جيرانها بأنها تمتلك الرادع النووي، دونما حاجة إلحراج اإلعالن عن ذلك، طاملا أن ذلـك االعتقاد يعزز، سياسيًا وإستراتيجيًا، عامل الـــردع الـكـامـن فـي «إشــاعــة» أو «حقيقة» امتالكها للسالح النووي. سأل يومًا عمرو موسى أمني عام الجامعة العربية السابق شيمون بيريز أن يزور وفد من الجامعة مفاعل ديمونة في النقب، من أجل إزالة الغموض عن برنامج إسرائيل النووي وطمأنة الـعـرب بــأن إسـرائـيـل، كما تعلن رسميًا، ال تمتلك السالح النووي أو تعمل على امتالكه. رد عليه بيريز بخبث الـسـيـاسـي املــاكــر: ســعــادة الـسـفـيـر، الـغـمـوض فــي مـثـل هذه الحاالت مطلوب... ملمحًا: من قال إن إسرائيل تريد طمأنة العرب، أصال. الغموض البناء، إذن: أمضى أدوات الدبلوماسية، كونه ال يتعارض مع ما هو معلن رسميًا كسياسة خارجية للدولة.. ويحقق أهـداف السياسة الخارجية بالتحكم في سلوكيات األطـــــراف الــدولــيــة، إمـــا بـالـتـعـاطـف مــع مــا تـتـبـنـاه الدولة مــن قــضــايــا خــارجــيــة خــدمــة ملـصـالـحـهـا الــوطــنــيــة وأمنها القومي.. أو لردع أعدائها وخصومها اإلقليميني والدوليني، إستراتيجيًا.