جدلية السني والشيعي في عالم متمدن
زرت بـغـداد أواخـــر شهر فـبـرايـر املــاضــي، مع أول وفد إعالمي سعودي يجري زيارة رسمية إلــى الــعــراق الشقيق منذ قـرابـة ثـالثـة عقود، وبعد تحسن العالقات، والتقينا خاللها بقيادات الحكومة وتجولنا في عدد من املرافق واألماكن العامة للتعرف على واقع الحياة في العراق اليوم، وخلصنا إلى أن هناك إرادة قوية على الصعيد الرسمي والحكومي والشعبي لتجاوز الـــخـــالفـــات ومــــا خــلــفــتــه الـــحـــروب والـــصـــراعـــات واألزمــــــات بـمـخـتـلـف مـسـتـويـاتـهـا وأصــعــدتــهــا، والــعــمــل الـــجـــاد على إعـــــادة وتــحــســني الــعــالقــات اإلقــلــيــمــيــة وفــقــًا ملـــبـــادئ حسن الـجـوار والسعي نحو إيـجـاد قـواسـم إيجابية مشتركة مع الـجـمـيـع ومـــراعـــاة تــقــديــم املــصــالــح الــعــامــة واملــشــتــركــة في إطــارهــا اإليـجـابـي وحتمية الـكـفـاح للمضي قـدمـا باتجاه البناء والتنمية وتعزيز األمن واالستقرار، وإلى هنا انتهت الـــزيـــارة وعـــدت إلـــى أرض الــوطــن مـحـمـال بـانـطـبـاعـات في غاية اإليجابية عن بالد الرافدين املعروفة بعراقة تاريخها وحضاراتها الثرية بالتعدد والتنوع الثقافي واالجتماعي الزاخر.. وما إن عدت إلى أرض الوطن إال واصطدمت بأسئلة مــن بــعــض رواد مــواقــع الــتــواصــل االجــتــمــاعــي حـــول مدى تأثير الخلفية املذهبية لبعض كبار املسؤولني على عودة العالقات بشكل حقيقي، ومـا إذا كانت ستؤثر املرجعيات واألحزاب السياسية الشيعية في تقارب أكبر مع إيران مقابل تقارب وهمي مع السعودية ودول الخليج؟ هـذا النوع من التساؤالت يعيدنا حتمًا إلـى حقول األلغام التي زرعتها الفنت الطائفية واملذهبية التي طاملا يحاول املــــســــؤولــــون ومـــــن خــلــفــهــم الـــعـــقـــالء والـــحـــكـــمـــاء التخلص والهروب منها بعد أن اكتوى من نارها الجميع بما يكفي ألن يتصدوا لها بكل الوسائل املمكنة واملتاحة لتجاوزها، وبحكم أنني وقفت على املشهد العراقي من قرب، أستطيع أن أقول أن االنخراط في العمل السياسي ومواقع املسؤولية تـحـكـمـه أطـــر يــحــددهــا دســتــور الـــدولـــة ورؤاهــــــا وأهدافها وإستراتيجياتها، وبمجرد وصول أي فرد ملوقع املسؤولية فهو ملزم بواجباته ومسؤولياته الوطنية وما تمليه عليه سياسة بالده، والدول تبني عالقاتها وفقًا لسياسات الدول ونهجها العملي. ولكن تبقى مسألة تأثر املجتمعات بالعديد من املوروثات والــــعــــادات والــتــقــالــيــد الـسـلـبـيـة واإليــجــابــيــة عــلــى السواء، بما فيها املسائل الدينية - العقدية والفقهية -، أمـرًا يجب الوقوف أمامه بحرص ومعالجته بعناية فائقة حفاظًا على األمـن والسلم االجتماعي، ومستقبل األجيال القادمة التي لن تحتمل توارث الخالفات املذهبية ما بني السنة والشيعة فـي ظـل آلـيـة وطبيعة التعايش فـي زمــن األلفية الثالثة أو عـصـر الـرقـمـنـة الـــذي يتسم بـالـتـطـور التكنولوجي الهائل ووفرة املعلومات وزيادة االعتماد على التواصل االفتراضي الذي حول العالم بأسره إلى قرية مصغرة، وبالتالي فرض العوملة واالنفتاح على املجتمعات. علينا أن نـــزرع فــي مـــدارك أفـــراد املجتمع، خـاصـة األجيال القادمة، أهمية تقبل واحترام اآلخـر بشكل عـام، سـواء على صعيد الثقافة أو الــعــادات والتقاليد أو الخلفية الدينية واملـذهـبـيـة، فـالـنـاس يــولــدون مــن بـطـون أمـهـاتـهـم فــي هذه الدنيا وال يفقهون شيئًا إال ما سيشكلهم عليه آباؤهم وثقافة مـجـتـمـعـاتـهـم، فــــإذا ولــــدت فــي الــصــني مــن أبــويــن صينيني فعلى األرجح أن تكون بوذيا، وإذا ولدت في التيبت ستنشأ وفقًا لثقافة مجتمع التيبت، وبالتالي سترحب بالضيوف بــإخــراج لسانك أمـامـهـم، وإذا ولــدت فــي الهند فقد تتزوج على طريقة «البراهما»، حيث تتقدم ألسرتك الفتاة الراغبة للزواج منك وفقًا لعادات وتقاليد بعض املناطق هناك، وكل ثقافة مجتمعية تبني قناعاتها، فبعض الصينيني يكرمون األمـــــوات بــوضــع أفــخــر أصــنــاف الــطــعــام عــلــى أضرحتهم، وعندما تعجب بريطاني من ذلك الفعل، متحججًا بأن امليت ال يأكل؟ رد عليه صيني: أنتم تضعون أجمل الزهور على قبور أمواتكم بالرغم من أن امليت ال يشم!. وبــالــنــظــر فـــي جــــذور نــشــأة الــخــالفــات الــتــاريــخــيــة مـــا بني السنة والشيعة نجد أنها نسخة شبيهة بخالفات الكنيسة واملــذاهــب، أو مـا وصفه وفـسـره بعض الفالسفة واملفكرين بـأنـه صــراع مـا بـني «الـواقـعـيـة» و«املـثـالـيـة»، والكثير ممن درســـوا هــذه الـخـالفـات بحياد ومــن زاويـــة سوسيولوجية، مثل ميلتون ينغر فـي كتابه املـعـروف «الـديـن فـي الصراع على السلطة»، خلصوا إلى أنه ال يوجد في هذه الخالفات ما هو حق مطلق أو باطل مطلق، خاصة أن الخالفات في أصلها ليست فقط عقائدية بل تخللتها صراعات سياسية وتقديم للمصالح الدنيوية التي أفسدت املبادئ الحقيقية التي نشأت على أساسها الرسائل اإللهية. وطــاملــا أن الكثير مــن الـــدول والـحـكـومـات ال تخلط مــا بني املوروثات االجتماعية والدينية ومنظومتها السياسية، إذن علينا أن نعمل على تجاوز هذه الجدليات التي ال تنتهي، ولــن تنتهي إال بالعمل على تغيير فكر الـخـالف مـع اآلخر وتقديم مبادئ تقبل واحترام اآلخر.