حرب الدبلوماسيني !
مــــن مـــظـــاهـــر الــــســــيــــادة إقــــامــــة الـــــدولـــــة عالقات دبـــلـــومـــاســـيـــة، مــــع الـــــــدول واملـــنـــظـــمـــات الدولية األخـرى. وإن كانت إقامة السفارات والقنصليات الدائمة في عواصم الدول األخرى ومدنها، تقليدًا حديثًا تطور مع الدبلوماسية الجماعية بعقد مؤتمرات القمة، التي واكبت ظــهــور الـــدولــة الـقـومـيـة الـحـديـثـة فــي مـؤتـمـر صـلـح وستفاليا ..16٤8 وتــعــزز فــي مــا بـعـد باتفاقية فينا 181٥ عـقـب هزيمة نابليون فــي معركة واتــرلــو.. واكـتـمـل بـوضـع إطـــاره السياسي والقانوني امللزم، مؤخرًا، في اتفاقية فينا للعالقات الدبلوماسية 18( أبــريــل .)1961 إال أن مــبــدأ ومــفــهــوم الــســفــارة نــفــســه، بما يحويه من قيم وممارسات احترام العمل الدبلوماسي، تتعلق بــامــتــيــازات وحــصــانــات الــســفــراء لـضـمـان حـمـايـتـهـم، ومـــن ثم، كفاءة وفاعلية عملهم، قديم قـدم تاريخ العالقات الدولية، في ما عـرف بالدبلوماسية املتنقلة، التي كانت تأخذ شكل البريد الدبلوماسي بن قادة الدول. في املقابل: أيضًا، من ممارسات السيادة للدولة تقليص أعداد دبلوماسيي الــدول األخــرى في أراضيها، وإنهاء إقامتهم بها.. بـل وإغــالق سـفـارات وقنصليات الــدول األخــرى فيها، فـي حالة تعليق أو قطع العالقات الدبلوماسية معها. وإن كانت إقامة الـعـالقـة الـدبـلـومـاسـيـة مــع الـــدول األخـــرى تعني اعــتــراف الدول ببعضها، فقطع العالقات الدبلوماسية ال يعني إنهاء اعتراف الدولة بالدولة التي قطعت عالقاتها الدبلوماسية معها. بينما يقتضي العرف الدبلوماسي عـودة العالقات الدبلوماسية بن الـــدول بـمـبـادرة الــدولــة الـتـي قطعت الـعـالقـات ابــتــداء، وإن كان يقتضي ذلك - في كل األحــوال - عقد اتفاق ثنائي بن الدولتن املعنيتن بإعادة العالقة الدبلوماسية بينهما. وإن كان قطع العالقات الدبلوماسية يعني: وضع حد للعالقة الطبيعية والرفيعة بينهما، ولو مؤقتًا حتى تزول أسباب القطيعة الدبلوماسية، فـإن التعبير عن تدهور العالقة بن الدولتن، ال يحتاج بالضرورة إلى اللجوء لقطع العالقة الدبلوماسية بينها. دبلوماسيًا: فإن التوتر في العالقة بن دولتن أو أكثر يمكن أن يطال إجـــراءات مـا دون القطيعة الدبلوماسية بينها، تبدأ من سحب السفراء، كثيرًا ما يبرر بالتشاور تفاديًا للتصعيد، إلى طرد السفير نفسه.. وتخفيض مستوى التمثيل ملا دون مستوى السفارة، للمفوضية.. أو قائمية باألعمال. في كل األحوال: يكون مثل ذلك السلوك املعبر عن توتر العالقة بـن الـــدول، يـأخـذ بـقـاعـدة: املعاملة باملثل. فكل إجـــراء مـن تلك املواقف، يستلزم عادة: إجراء مماثال متساويًا، ما عدا في حاالت نـــادرة، بــدواعــي التصعيد.. أو تـفـادي التصعيد، وفـقـًا ملـا يراه القائمون على السياسة الخارجية للدولة. في حالة التصعيد، ممكن الـرد على إجــراء سحب السفير، بطرد سفير الدولة التي سحبت سفيرها، من قبل الدولة املضيفة له. في حالة عدم الرغبة في التصعيد، ال تلجأ الدولة التي سحب سفيرها من أراضيها، لإلقدام على نفس اإلجراء، فتبقي على سفيرها في الدولة التي سحب سفيرها من أراضيها. فاملسألة، في النهاية سياسية، فيها الكثير من تقدير املوقف من الناحية السياسية، أكثر منه مسألة «كرامة» وطنية، كما يمكن أن يدل عليه مبدأ املعاملة باملثل. فــي الــفــتــرة األخـــيـــرة، نـشـبـت أزمــــة دبــلــومــاســيــة بــن بريطانيا وروســـيـــا، بـسـبـب اتــهــام بـريـطـانـيـا لــروســيــا، بتسميم العميل الـروسـي املـــزدوج السابق (سيرجي سكريبال) وابنته (يوليا) فــي أراضـــي اململكة املـتـحـدة. بسبب هــذا الـعـمـل الـــذي اعتبرته بريطانيا عدائيا، أقدمت لندن على طرد بعض الدبلوماسين الــروس. وتفاديًا للتصعيد لم تقدم موسكو على إجــراء فوري مماثل، حتى اتسعت عملية طرد الدبلوماسين الروس، تضامنًا مـع بريطانيا، لتشمل دوال غربية عــدة. املـالحـظ هنا فـي هذه الحركية املتبادلة الستخدام آلية طــرد الدبلوماسين، لـم يتم بسبب إســاءة أولئك الدبلوماسين وتجاوزهم ملهمات عملهم الدبلوماسي املتعارف عليه، بل جـاء بمثابة عقاب أو رد فعل عقابي التهام دولة بممارسة عمل معاد، بوصفه عمال جنائيا وغير أخالقي معًا، له أبعاد إستراتيجية خطيرة، مس السيادة البريطانية على أراضيها وأمنها.. وارتكب جرمًا يعاقب عليه القانون البريطاني. هـذا السلوك التضامني مع املوقف البريطاني من قبل حلفاء بريطانيا في معاهدة حلف شمال األطلسي يضفي بعدًا سياسيًا لألزمة بخلفياته اإلستراتيجية املحتملة، بتعريض أمن دولة في حلف شمال األطلسي للخطر، باستخدام غـاز محرم دوليًا للتخلص من مواطن متهم بالجاسوسية، من قبل االستخبارات الروسية. هذا اإلجراء التضامني مع بريطانيا، من قبل حلفائها اإلستراتيجين في الناتو يعيد للنظام الدولي، حالة الصراع السرمدية بن الشرق والـغـرب، التي ظن الكثيرون أنها توارت بعد انهيار نظام الحرب الـبـاردة. فبريطانيا التي خرجت من املنظومة االقتصادية لالتحاد األوروبــي، نراها تلقى تضامنًا دبلوماسيًا وسياسيًا مـن الغالبية العظمى مـن دول االتحاد األوروبي، ومن الواليات املتحدة وكندا. لقد وجـدت إدارة الرئيس ترمب في األزمــة ما يبدو أنـه مخرج ملا يثار بسبب تدخل الـروس املزعوم في االنتخابات الرئاسية األخـيـرة، إلبعاد شبح تواطؤ حملة الرئيس ترمب االنتخابية مـــع الــــــروس، بــالــتــالعــب بـــأصـــوات الــنــاخــبــن األمــريــكــيــن، في تلك االنـتـخـابـات.. بـل إن واشنطن زادت مـن إجـــراءات املقاطعة الدبلوماسية مع موسكو، بغلق القنصلية الروسية في سياتل. ورد موسكو على ذلك بغلق قنصلية الواليات املتحدة في سان بطرس بيرغ. وتـبـقـى، فـي كـل األحــــوال، وضعية الـعـالقـات الدبلوماسية بن الـــدول «الـتـرمـومـتـر» األهــم الكاشف عـن مستوى الـعـالقـات بن الـــــدول.. واملــقــيــاس األكــثــر إظــهــارًا لـحـالـة طبيعية الـعـالقـة بن الدول، من غيابها أو عدمها.