Okaz

اليهودي عندما يحب !

-

كريح ناعمة تجوب «تونس» كنت أجلس فــي التكسي وصـديـقـي املـثـقـف «الشريف ناصر املـنـصـور» متجولني، الصباح في «تـونـس» يتمايل كغجرية مغرقة بالحرية، واألرض تبدو كقماشة حريرية مزخرفة تهتز برفق ونعومة، ال شيء يشوه جمال الفجر أو يخدش هـدوءه املهيب، ال شيء يفسد ابتسامة الصباح وهو ينشر نوره على الـدنـيـا، السحب تتجه إلــى وجهة مجهولة، تسير في اتجاه واحد تحت رعاية سماء ربيعية صافية الزرقة، ال يــضــاهــ­ي ثــبــاتــ­هــا شـــــيء، تـــوحـــي أن كـــل مـــا عداها يـمـضـي، أفــتــح نــافــذة الــعــربـ­ـة، أستنشق الــهــواء بنهم، أحبسه في صــدري لحظات، أغمض عيني برهة وأنا أعــب مـن ذلــك الـهـواء فـي صــدري، خــدر خفيف يصيب رأسـي، فتحت عيني بعد ذلك على قصر محافظ على أناقته رغم القدم الذي يستتر خلفه، الشرفات الرخامية البيضاء بنيت بشكل غائر إلى داخـل املبنى، وضعت على الــحــواف زخـــارف بـــارزة ألزهـــار وأشــكــال جمالية منتقاة، أحــواض كبيرة مزروعة، فيها أزهــار حقيقية وأحيطت بجدار حجري، معمار على الطراز الفرنسي مبهر لألبصار، كـان البناء يغط في ذاك الصباح في الفخامة والصمت والهدوء الضجر، ال يبدو أن بداخله إنسانا أبدًا وال على نوافذه وال على شرفاته وال على الـرصـيـف أمــامــه، كــان كطفل الــحــرب الـــذي فقد أقاربه كلهم، نما في داخلي شغف كبير ملعرفة سر ذلك املكان، كنت أرنو للقصر كعاشق يرنو إلى قصر متيمته، أمعن في التأمل كبطل سابق في رياضة الغوص، أتقلب على أسـنـان منشار الـفـضـول، هــوس ال حــدود لـه باملاضي، عراقة املاضي مازالت تسري في عروقي، أحسست أنني طائر وحيد عن له اكتشاف مملكة السماء، لم أتمالك نفسي أكثر بالحديث مع السائق، استوضحته عن سر ذلك القصر، أنا من املدمنني على التحدث مع سائقي التكاسي، إدمان الدب للعسل، سائقو التكاسي في كل املــدن يعطونك ما يستوجب األخــذ، فسائقو التاكسي سجل حياة املدن، مادة فكرية وثقافية دسمة، مؤرخون بـارعـون للسيرة الحياة والـبـشـر، مغرم بالحديث مع الــســائـ­ـقــني فــمــن يـتـصـنـع الــغــربـ­ـة ال يــحــســن الحديث، خبرتي املتواضعة تمكنني مـن استمالة السائق في أي مدينة للحديث معي استمالة طفل صغير، السائق الــتــونـ­ـســي إنــســان عــالــي الــثــقــ­افــة شــديــد الـــتـــأ­دب أنيق الكام، كان السائق رجا مستدق الجسد، دقيق املامح، صغير العينني، اكتسح الصلع جـزءا كبيرا من رأسه، اختلجت عيناه الصغيرتان ما إن انتهيت من سؤالي، حتى تلقيت ابتسامة عذبة منه، ثم أتاني صوته بنبرة معطرة قــال لـي «إن وراء هــذا القصر قصة تعود إلى عام ٠٣٩١م نحن نطلق عليه في تونس قصر «حبيبة مسيكة» وهــي مـطـربـة وممثلة وراقــصــة أهــداهــا هذا القصر ثري يهودي تونسي ولم تسكنه قط، كان القصر هدية لــزواج لم يتم، حيث كان ذلك اليهودي متزوجا ولــه أبــنــاء، ولـقـد عشق الـثـري الـيـهـودي املـسـن، واسمه «اليهوا ديفيد ميموني»، «حبيبة» عشقًا يتجاوز محبة قيس لليلى وعـنـتـرة لعبلة، وكــان يمطرها بالهدايا واملجوهرات واستمرت العاقة بينهما خمس سنوات لـتـنـتـهـ­ي بـــأن قـــام «الــيــهــ­وا ديــفــيــ­د مــيــمــو­نــي» وبدافع الغيرة واالنتقام بحرق «حبيبة» في مخدعها بعد أن تسلل لشقتها وسكب من قربته البنزين على مخدعها وأرضية الشقة، لتتوفى «حبيبة» محروقة، ولينتهي به األمر أن يتوفى هو أيضا بعد وفاتها بأقل من شهر، وشيعت «حبيبة» في موكب كبير، وكــان التونسيون بمختلف طوائفهم يتبعون النعش وكلهم حزن وأسف على فقدان نجمتهم املحبوبة، وجاء في إحدى املجات الفرنسية أن سكان تونس ظلوا زمنًا يرتادون إحدى دور السينما ملشاهدة شريط جنازتها والبكاء عليها، واســتــمـ­ـرت سينما «تــريــانـ­ـون» ملـــدة طـويـلـة تـعـلـن عن بــث الـشـريـط الـوثـائـق­ـي، وظـلـت حكايتها تــتــردد على األلسن طيلة أجيال، ال سيما بعد أن قام ابن «الياهوا» «ديفيد»، وكان كفيفًا ومعارضًا للعاقة التي تمت بني أبيه و«حبيبة»بمنح هذا القصر للحكومة التونسية، وليتحول فيما بعد إلى «دار الثقافة التونسي» وأطلق عليه «دار حبيبة مسيكة»، الـتـي لـم تسكنه قــط. كنت أسـتـمـع لـسـائـق الـتـاكـسـ­ي ينهي تـلـك الـقـصـة ألقـــول له «اإلنسان يصبح فكرة قصيرة جدًا وبائسة منذ اللحظة الــتــي يـنـصـرف فيها مــن الــحــب لــانــتــ­قــام»، ليجيبني وبنبرة ساخرة، بل أعتقد أن اليهودي إذا أحب مكانًا أو إنسانًا سعى إلى تملكه بالكامل، فإن فشل أحرقه أو دمره.. ألم أقل لكم إنه حتى سائق التاكسي في تونس إنسان مثقف!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia