Okaz

من االجتهاد املتنوع إلى القانون الواحد

- يحيى األمير * yameer33@ hotmail.com

هـل يمكن لالجتهاد الفقهي الــذي غالبا ما يمثل لحظة اجـتـهـادي­ـة ذات سـيـاق معني أن يدير الحياة في الدولة املدنية الحديثة؟ في الـواقـع يمكن أن يكون هــذا مستحيال للغاية، ومحاوالت فرضه سابقا هي التي تقف خلف كل األخطاء والتوترات املجتمعية السابقة. الحل في القانون والتنظيم فقط، وثمة من يتهيأ اآلن للرد على هذه العبارة أنها مجافاة للشريعة وتخل عنها، ولكن النظام والقانون ال يأتيان إال من خالل املقومات الثقافية واالجتماعي­ة التي على رأسها الدين. الدولة تمنع وتسمح ولكنها ال تحرم وال تحلل؛ وإذا كان ثمة رأي فقهي مثال يحرم املوسيقى فاالقتناع به أو رفضه مسألة شخصية تعود لألفراد، لكن الدولة ليس من شأنها وال من مهامها أن تتبع ذلك الرأي أو ترفضه، ألن عالقتها باألفراد تقوم على القوانني واألنظمة التي تراعي تنوعهم وخياراتهم. إشارات املرور مثال ال تفرق بني امللتزم وغير امللتزم وعلى الجميع االلــتــز­ام بها بغض النظر عـن قناعاتهم، القيمة الــكــبــ­رى فــي إشـــــارا­ت املــــرور قـيـمـة ديـنـيـة عـلـيـا تتمثل في التنظيم وحفظ األرواح. ولنتخيل ماذا سيكون األمر عليه لو أن االجتهادات الفقهية التي ظلت تصدر يوميا طيلة السنوات املاضية تحولت إلى قوانني وأصبحت تمتلك سلطة إللزام الناس بها! اجتهادات في اللباس واألكل والعالقات والسفر وكل تفاصيل الحياة (هذا التفصيل أحد إشكاالت املدارس الفقهية التقليدية) لو امتلكت سلطة النتهى األمر بها إلى خلق حروب اجتماعية قاهرة ولتراجعت فكرة الدولة تماما. الفقه لـم يكن دائـمـا ذا خطاب مدني ينطلق فيه مـن روح ومقاصدية التنزيل الحكيم الذي هو للناس جميعا، وأدى ارتـهـان االجـتـهـا­دات الحديثة زمنا للفقه القديم املوروث إلـى جعل االجتهاد يــدور خــارج الـواقـع وليس جــزءا منه؛ منشغل بالتحريم الــذي بـات سالحه الوحيد في مواجهة كل جديد. الـنـظـام الـخـاص بالسينما ســواء فـي إنـتـاج األفـــالم أو في إقامة دور العرض له تأثير فعلي في حياة الناس اليوم أكثر مـن االجـتـهـا­دات واآلراء التي صــدرت فـي هـذا الشأن، والتي في الغالب تجنح للذم والرفض وقبول هـذه اآلراء أو رفضها هو شأن خاص باألفراد وليس من حق أحد أن ينكر على املقتنعني بهذه اآلراء أو يعرض بحقهم في ذلك، والدولة أيضا هي التي تدير هذا الجانب. التنوع قيمة عليا ومن عوامل ازدهار ونمو الدولة املدنية الحديثة، ولذا وكما تنمي الدولة االقتصاد واملوارد عليها أيــضــا الــعــمــ­ل عــلــى تـنـمـيـة الــتــنــ­وع لــيــكــو­ن إيــقــاعـ­ـا يوميا واضـحـا فـي الحياة العامة، التنوع يجعل األفـــراد سعداء بحرياتهم وحقوقهم ويجعلهم أكثر حرصا على حقوق اآلخرين، كذلك ألن هذا يحميهم هم كذلك، والتنوع ال يمكن أن يقع ناهيك عـن أن يـزدهـر إال فـي ظـل النظام والقانون وبالتأكيد ليس في ظل االجتهادات واآلراء املختلفة. مــقــابــ­ل حــالــة الــعــشــ­وائــيــة واالنــــف­ــــالت الــتــي كــانــت سائدة فـي املشهد الفكري وملـا لـه مـن تأثير وسلطة فـي الوجدان العام يصبح تدخل الدولة ضروريا لترشيد هذا الخطاب وبخاصة الجماهيري املنبري منه وما حدث منذ أسبوع حــني اتـحـد كثير مــن خـطـبـاء الـجـمـع عـلـى مــوضــوع واحد في قضية واحدة وبرأي فقهي واحد فإنهم بذلك يقدمون نموذجا على أهمية تدخل النظام في إعــادة توجيه تلك املنابر لتتخلص من األحادية والتنظيم املوجه ذي األهداف املخطط لها، وبعيدا عن كـون هـذا يمثل تشويها حقيقيا لوظيفة هــذا املـنـبـر، فـهـو يشير إلــى خــطــورة الــقــوى التي تتحرك ضـد التنوع الــذي هـو أبــرز وأعـظـم صفات الدولة املدنية الحديثة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia