Okaz

محمد النجيمي *

-

الناس ال يصدقون املعجزات، لم تعد تستهويهم األساطير وال حكايا الجدات. أواجه معهم مشكلة جدية عندما أخبرهم عن معجزة حدثت منذ زمن قريب. يجدون عسرًا في محاولة فهم والدة صبية جميلة من الشمس والقمر. كانت الصغيرة هي ما وجده أهل القرية ذات يوم بجوار نخلة باسقة ويـتـيـمـة بــجــوار آخـــر بـئـر تــجــود بــاملــاء فــي ذلك املكان. حدث هذا في ليلة مقمرة، كان البدر فيها عريسًا بكامل زينته. السماء كانت تحتفل به والنجوم كــانــت تـحـيـط بــه كـمـا يـحـيـط األصـــدقـ­ــاء واألهل بعريسهم في مناسبة مقدسة كهذه. كان كل شيء يشي باحتفال تعده السماء، تشارك فيه كواكب املــجــمـ­ـوعــة الـشـمـسـي­ـة، مـمـثـلـي املـــجـــ­رات وسفراء بأجنحة يرتدون البياض. لم يكن ينقص الطقس إال ظهور العروس ولم يدر بخلد أحد ممن شهد تلك الليلة النادرة أن يتخيل أن الشمس ستعود من إجازتها املؤقتة لتتصالح مع الليل، لتتمرد ولو ملرة واحدة فقط على قوانني الكون، من أجل أن تالمس حبيبها ولو ملرة واحدة، وتصبح زوجة له ولو لبعض ليلة. كنت صغيرًا وحاملًا عندما شهدت ذلك، كان حدثًا فريدًا سيرافقني لبقية عمري. سـيـدة جميلة متلفعة بـعـبـاءة مـن نــور، وجهها نــــور، جــثــت عــلــى ركـبـتـيـه­ـا أمــامــنـ­ـا. كـــان قــد حل الظالم وسكب علينا القمر بعد تجليه دفقًا مبهرًا من فضته. حل النهار معها، أو حل بها، ال فرق، فـأمـامـنـ­ا تـجـلـى كـشـف عـجـيـب، شــاهــدنـ­ـا املعنى املتجسد للوجود، الليل والنهار في وقـت واحد ومـكـان واحــد، يمأل أنفاسنا، أعيننا، وأرواحنا بالحقيقة. صرخت متوجدًا: الشمس والقمر اجتمعا معًا فـي سمائنا وعلى أرضنا. إنه النهار، إنه النور. مجنون، أنت مهووس، اصمت. أقسم بكل شيء مقدس أنها الشمس، وأن القمر بـوجـهـه الجميل والـــذي يـطـل علينا اآلن، ينظر إليها بانكسار. نــظــروا لــي بسخرية مــؤملــة، سمعتهم يتحدثون بعبارات تهكم موجعة، أحدهم قال: - هذا سحر، لقد أتاكم بشعوذة األولـني ليطمس الحقيقة، هذا دأبه، وهذه ترهاته ال ينفك يلقيها على صغارنا. جاوبه شيخ بصوت جهوري، وبنبرة كلها وعيد: - يريد أن يجردنا من عقولنا، ارجموه، أو حرقوه، لعل الله يبعد عنا هذا البالء، ويخلصنا من هذه النازلة. - صــدقــونـ­ـي، أنـــا مـثـلـكـم مــأخــوذ بما أشاهد، تأملوا، انظروا بأعينكم، الكون محبة، الحب منثور فـي كـل ذرة فيه. تنفسوا هــذه الـنـعـمـة، فـقـد تتلبسكم، تحل بكم. إنه النهار، إنه النور. شـاهـدت نـظـرات الـخـوف فـي أعينهم، مـتـلـبـسـ­ة بــبــؤس وفـــــزع، وحــقــد يكاد يــــمــــ­زق ســكــيــن­ــتــي ووجـــــــ­ــــدي. فــــجــــ­أة ! سمعناها تـتـأوه، أنينها كــاد يخنقنا، دموعها الذهبية سالت على خدودها الصافية، قالت بصوت منخفض: - أمكتوب علينا الفراق ؟ أقــدري معك أن أحترق بأشواقي ؟ في رحلة تأخذني بعيدًا عنك، بعيدًا جدًا، وحني يبتسم لنا القدر، ألقاك على عجل في مصافحة ال تسمح لي باحتضانك، ال تعطيني حتى فرصة الشكوى منك إليك. جـــاوبـــ­ت دمـــوعـــ­ه الــفــضــ­يــة حبات الــخــرز الـذهـبـيـ­ة الـتـي جـــادت بها، نــــزل قــلــيــا­ل عـــن مــكــانــ­ه، تـــكـــور، ثم تـــشـــظـ­ــى. جـــمـــع ذراتــــــ­ــه املتطايرة لـيـتـشـكـ­ل رجــــــال، مـتـلـفـعـًا بعباءة ســــــــو­داء، قــبــل أن يــجــثــو أمامنا، أمامها، في مشهد ال يتكرر. أخذت أصيح مذهوال: _ ال يعقل، يا الله...... إنه النور، إنه النهار.

*** عيون الجميع تتابع املشهد بلهفة، بعض خوف، واهتمام غريب. جمع يديها بني يديه، قبل جبينها، اتحد معها حــتــى كــانــا كـــواحـــ­د، تـــراجـــ­ع إلــــى الــخــلــ­ف، تأمل عينيها بعمق، تخيلت أنه كان يغوص خاللهما، فــي رحـلــة مـنـه إلــيــه، منها إلـيـهـا، ليبلغ عـاملــًا ال نـدركـه، وكأنه يحدثها بلغة ال نفهمها. قـال لها بعذوبة: - أنت معي هنا. وأشار إلى قلبه، قبل أن يضيف: أنــــا بــــك، تــشــكــل­ــت مـــنـــك، مــخــلــو­ق روحــــــه وفكره مسلوبة منه، قلبه ينبض لغيره، عندك ولك. احتضنها بقوة، كـان يرتجف. وضـع رأســه على كتفها، وبدأ ينتحب، بكاؤه مرير، واملاء ينسكب بـــغـــزا­رة مـــن عــيــنــي­ــه. هــالــة الـــنـــو­ر الــتــي تشكلت حولهما كـــادت تـذهـب بـأبـصـارن­ـا، الـلـيـل تلبسه النهار، والنهار كان متجليًا ومتجسدًا حول تلك الهالة. طال عناقه لها، أعتقد الجميع أنهما قد التصقا، كأنهما تحوال شيئًا واحــدًا، مخلوقًا جديدًا كان يـتـشـكـل أمـــام أعـيـنـنـا. لــم يـكـن بـوسـعـي أن أفرق بينهما، كأنه هي وكأنها هو، كانا في كل مكان. فــجــأة، دون ســابــق إنـــــذار، انـفـصـل عـنـهـا، ابتعد قليال. كانت صامتة، جـامـدة، عيناها تتبعانه، معلقة به، وعيناه ال تفارقان ذلك الدفق املتواصل من الضياء والــدفء الـذي ينبعث من الحياة في عينيها. اســتــدار، خطا بضع خـطـوات، ثـم صعد إلـــى الــســمــ­اء، دون أن يلتفت خـلـفـه، مــن دون أن يـقـول وداعـــًا. ظلت على حـالـهـا، تتبعه بعينها، حتى استقر، بعد أن استعاد هيئته األولى. انــتــظــ­رت قــلــيــا­ل، ثــم صــعــدت إلـــى حـيـث يـجـب أن تـكـون الـشـمـس، اسـتـقـرت بعيدًا جــدًا فــي ملكوت الـــســـم­ـــاء، ثــــم انــقــطــ­ع املــشــهـ­ـد بــعــد أن أغمضت عــيــنــي­ــهــا، وتـــالشــ­ـت الــحــيــ­اة الــتــي كــانــت تمدنا بالبصيرة وتـغـذي أرواحــنــ­ا باملعرفة أثـنـاء ذلك االتصال السحري.

*** الصمت عم املكان، الظالم لفنا من جديد، واألشعة املنبعثة من القمر أخـذت تضعف تدريجيًا، قبل أن يغمض قمر السماء عينيه هو اآلخـر ويتدثر بالظلمة مختفيا عن نظراتنا املتطفلة والخائفة. صوت مرتعش يقطع الهدوء متمتمًا: - أهذا حلم، أو لعله سحر ؟ استعيذوا بالله من الشيطان، وال تتحدثوا به حتى ال تحل عليكم العقوبة. ثمة رجل في الطرف البعيد يضحك بصوت عال، كـان ضحكًا أشبه بالبكاء، تقدم اخـتـرق الجمع، وقف في املنتصف ثم أخذ يغني: - انصتوا للريح، تحدثوا للسماء، فاليقني مخبؤ هناك، بعيدًا.. قريبًا.. خلف األفق

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ?? محمد النجيمي
محمد النجيمي

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia