األبعاد الدولية لإلصالح الديني في السعودية
قد يبدو للوهلة األولى أن املراجعات وإعادة تأهيل الوعي الديني في املجتمع هو شأن داخلي بحت، تتبناه أجهزة الدولة وعلماء الدين املختصون تلبية لضرورات مجتمعية، بمعزل عن املحيط اإلقليمي والدولي. إعادة إحياء مرجعية اإلسالم املعتدل والتسامح الديني التي تقوم بها حكومة اململكة العربية السعودية منذ عام ،2015 كان لها ارتدادات إقليمية ودولية باإلضافة إلحداثها ثورة سلمية ومنضبطة داخـلـيـًا. قــد تـكـون املـكـانـة اإلقليمية للمملكة السبب الرئيس لهذه االرتــدادات العابرة للحدود، ولكن أعتقد أن ردات الفعل، التي تراوحت بني التشكيك والتفاؤل، ال تحاكي فقط االصـطـفـاف اإلقليمي ملـنـاوئـي اململكة وحلفائها، بــل تجاوزتها لتكون عامال استباقيًا أرغم الجميع على إعادة حساباتهم. إقليميًا قـرار اململكة نزع الشرعية عن التوظيف املرحلي للتشدد الــديــنــي، ومـجـابـهـة تــوغــل أنــصــار منظمة اإلخـــــوان املـسـلـمـني في الدولة واملجتمع، انتصر أخالقيًا لجهود محاربة الفكر املتطرف في دولة اإلمارات والبحرين ومصر، ولكنه أربك إيران وأصدقاء ها فـي املنطقة. فقد كانت اململكة العربية السعودية املتهم املفضل إليــــران مـنـذ ســقــوط الــشــاه - بــالــذات بـعـد احــتــالل الــعــراق وخالل مـرحـلـة املــفــاوضــات الـنـوويـة - عـلـى أنـهـا الــداعــم للتطرف السني عـاملـيـًا. مـداهـنـة الــغــرب خــالل املــفــاوضــات الــنــوويــة مــن قـبـل إيران أوجبت تحييد االبصار عن دعمها لحزب الله وحماس، وتوصيف كبش فــداء بديل يمكن لــه، على األقــل مـن وجهة النظر اإليرانية، أن يتحمل اللوم على انتشار التطرف واإلرهــاب في املنطقة. قرار اإلصالح الديني ودعم االعتدال أربك الـ modus operandi اإليراني، بحيث ألغى املرتكز اإلستراتيجي لتعاملها مع دول الخليج. مرت ردة الـفـعـل اإليــرانــيــة عـلـى تـصـريـحـات ولــي الـعـهـد الــســعــودي عن استئصال التطرف في اململكة في مرحلة التشكيك. أما اآلن وبعد أن أعقبت الحكومة السعودية القول بالفعل، فإن السياسة اإليرانية تناور في إطار ضيق يقتصر على ردات فعل قاصرة عن استحداث إستراتيجية بديلة، ويظهر هذا جليًا في ما يخص الشأن القطري أو التقارب السعودي العراقي. دوليًا أكثر ما يلفت النظر هو ردات الفعل الدولية للقرار التاريخي إلحــيــاء أصــــول االعـــتـــدال الــديــنــي فــي املــمــلــكــة، حــيــث أربــــك القرار السياسيني األوروبــيــني واألمريكيني. حــاول البعض مـن متابعي الــشــأن الخليجي إيــجــاد ثــغــرات دعــائــيــة فــي الــخــطــاب السعودي ملمحًا على أن الدعوة لالعتدال ما هي إال طفرة آنية في العالقات العامة لضمان نجاح خطة 2030 اإلنمائية. آخرون أصروا على أن ما يقوم به امللك سلمان ما هو إال محاولة للتبرؤ من املاضي. اقتران القول بالفعل في اململكة وإعالن أن اإلصالح الديني خيار وطني ال رجعة فيه، وضـع املجتمع الدولي أمــام حقيقة مغايرة. حقيقة تحول الهوية الدينية في اململكة من قيود أيديولوجية معادية ومـشـكـكـة فــي «اآلخـــــر» إلـــى هــويــة ديـنـيـة أصـيـلـة مـعـتـدلـة متقبلة لآلخر، ومرحبة بالتطور السياسي واالقتصادي واالجتماعي. الوعي الديني والذاكرة التاريخية مكونان أساسيان يدعمان بلورة الهوية الوطنية فـي اململكة. الـعـودة لالعتدال والتسامح الديني أضعف الجدل العقائدي في ما يسمى الخالفات والتحزبات السنية الشيعية املوظفة سياسيًا، مما خدم االستقرار الداخلي في اململكة، ودعم الدور الدبلوماسي السعودي الفاعل في الدول العربية التي تعاني من آفة التناحر الطائفي. حالة االرتباك والتوجس الغربي ستتضاءل كلما اتضح للجميع أن قرار اإلصالح الديني واالجتماعي واالقتصادي هو بدء مرحلة تــطــور جــديــدة ململكة ال تتنكر للماضي بــل تعلن عــن حقها في مستقبل أفضل. إذا كــانــت هــذه نــبــذة بسيطة عــن ردة الـفـعـل اإلقـلـيـمـيـة والدولية لإلصالح الديني في اململكة، فكيف انعكس هذا القرار على رؤية السعودية لدورها اإلقليمي؟ املفارقة األخرى وهي األهم، أن إعالن «وفــاة الصحوة» من قبل امللك سلمان وولــي عهده األمير محمد بـن سلمان، شكل حـافـزًا منطقيًا إلعــادة قــراءة املصلحة الوطنية الــســعــوديــة مـــن مـنـطـلـق إســتــراتــيــجــي بــحــت، يــقــيــم املــصــلــحــة من منظور براجماتي بحيث ترى الحقائق كما هي، بدل الحرص على املواء مات األيديولوجية. هذا بدوره فتح آفاقًا رحبة وفرصًا كثيرة مستدامة للتعاون والـشـراكـة اإلقليمية والـدولـيـة. مـع بــدء ظهور بوادر حرب باردة جديدة بني الواليات املتحدة من جهة وروسيا والصني من جهة أخرى، فإن املرونة الجيوسياسية لبناء تحالفات وشراكات من أهم العوامل املتوفرة للدولة لدرء األخطار وتحقيق املصلحة الوطنية.