الذاكــــــــــــــــــــــــرة
ثـــمـــة لـــعـــنـــة مــتــمــتــرســة فــــوقــــي تحيطني بــالــخــنــادق واألســـــــاك الــشــائــكــة ذات تيار كهربائي عاٍل، تحجب عني كل أمل بلحظات مــن األمـــل والــســعــادة والــصــفــاء، واستعادة ذاتي املنهكة املظلمة. هـــكـــذا، وكــــل لـــقـــاء عــنــدمــا نـــكـــون مـــعـــا على الــشــاطــئ، تـتـلـقـف يــــده الــســجــائــر، ويحكي لـــي ثـــامـــر مــــــرارة مـــا حــــدث لـــه مـــن ذكريات كـان أبطالها هو وأصــدقــاؤه: راكــان وجابر وسالم، بعض ضحايا عبارة السام املصرية املنكوبة، وعن حالة الفقد التي سحقته، وعن حجم اإلرهاق النفسي في تذكرهم. يخبرني عن حالة اليأس التي وصل إليها بعد أن أصبح قعيد كرسي متحرك، وأنابيب إخــــــراج الــفــضــات املــــازمــــة لــــه، يــحــكــي لي كوابيسه الليلية، وعـن الرحلة ولحظاتها، وعـن ذكرياتهم التي تهاجمه في الساعات األخــــيــــرة مـــن الــلــيــل، يــحــكــي لـــي الكابوس الذي عاش أدق تفاصيله وهو فاقد الوعي، وال يعلم أعــلــى قيد الـحـيـاة هـو أم فارقها؟ يقول لـي: لقد حلمت بـأن مـاك الخير الذي يستوطن على زندي، املكلف بكتابة األشياء ذات الــطــابــع الــخــيــري واإلنــســانــي، قــد جف قــلــمــه قــبــل أن أدلــــف إلـــى ســـن الــنــضــج، لقد شـــاهـــدت جــمــيــع األعــــمــــال الــصــالــحــة التي قمت بها بنية خالصة لله من خال مشوار حياتي ذهبت (هباء منثورا) ولم تسجل في صحيفة أعــمــال الـخـيـر. وبـاملـقـابـل شاهدت شيطاني الذي يغريني باملعاصي والشرور، وفعل األشياء غير الصالحة، وهـو في قمة السعادة، بل إنه من فرط غبطته بات يسخر مـنـي ويــقــول: ال تتعب نفسك يــا ثــامــر، قلم ماك الخير لن يكتب أبدا مهما فعلت. فـي الحقيقة، بعد كامه شعرت بالذهول، وأصابتني الدهشة مـن حديثه معي، وعن الفكرة الـتـي كـانـت تـــراوده حــول االستعانة بــــروح مــؤمــنــة، فــقــد فـهـمـت مــن حــديــثــه أنه يـــنـــوي جــلــب إمــــــام الـــجـــامـــع حــيــث قــــال له: شيخي، لقد تسببت بتعاسة أشخاص كثر بــحــيــاتــي، والـــلـــه يـعـلـم أنـــي كــنــت أجــهــل ما قمت بفعله، وأشــعــر مــن حينها أنــي فقدت الصلة بالله، حتى أني البارحة حلمت بأن الــلــه قــد أعـــرض عــنــي، وال أدري كـيـف أعيد عاقتي معه؟ شيخي: أشعر أنـي وحيد في هــذا الـعـالـم، أجـابـه تحدياته وقــذاراتــه وأنا أعــزل، لقد عرفت بعد الفاجعة معنى أن تــحــارب فــي معارك لــيــس لـــك ذنــــب فــيــهــا، وكأن القدر يستغل ما قمت به من تـصـرفـات مشينة كــي ينتقم مـــنـــي. شــيــخــي: كــيــف لـــي أن أنجح في إعادة صلتي بالله؟ أنـــا مـنـهــك الـــقـــوى، أخــلــد إلى الـنـوم بـصـعـوبـة... ويكمل ثامر مــن فــتــات ذكــريــاتــه وضحكات الـــبـــدايـــات وانــتــفــاضــات العمر املتقطعة، بأنها تقتحم عزلته بعد منتصف الــلــيــل، ويــشــعــر بـــأن غـيـمـة الــحــنــني تستعد لليلة ممطرة أخرى، وأنه مثل محكوم عليه بالقصاص ينتظر شفقة العفو من أهل الدم كي يمنحوه الحياة. يكمل حديثه يقول: قبل تلك الفاجعة كانت دواخلي حقوال متنوعة من الثمار اللذيذة، لقد رقـص قلبي من الفرح حينما قالت لي صـديـقـتـي: (ثــامــر، أحبك)، ومن حينها أصبحت كطفل يطارد طائرته الورقية. فــــي الــحــقــيــقــة، لـــقـــد جعلتني أشعر بدهشة العالم وسعادته حــني يحتفل بجميع األعياد، ال أبالغ لو قلت: إنها صنعت مني ثامرا جديدا، وال أبالغ لـــــو قــــلــــت: إنــــــي اآلن وطن يخلو مـن الشعب. أنــا اآلن في منفى بعيد عن العالم، وبعيد عن حقول الفرح... بعيد جدا. آه صديقي فارس، أنا اآلن أشعر أني أمتطي حـصـانـا يـأبـى الــوقــوف، يـذهـب بــي ويقطع مــفــازات املــاضــي السحيق، وينفض الغبار عــن تـلـك الــوجــوه واملـــواقـــف، أريــــده أن يقف (قـف) إني أستجدي وقوفه... لم أعد أحتمل وخـــزات الــذكــريــات الـلـذيـذة واملـــــرة... عجيب كيف يمكن لهذا الجسد وهذه الذاكرة تحمل أشرطة الذكريات ومرارتها! يا الله، رفقًا بنا، يكاد هذا الليل أن يمزقنا مثلما يمزق فاح صعيدي العشب بمنجل حــاد بعد أن علم أن الـحـوالـة املصرفية من أخيه بالخليج لم تصل بعد، ففرغ جل حزنه وغـضـبـه بـالـعـشـب حـتـى جـــرح يـــــده... هكذا باختصار، يحكي ثامر لي معاركه الليلية مـــع الـــذكـــريـــات، يـــقـــول: إنـــهـــا مــعــركــة ألجل الـبـقـاء، يكمل ثامر حديثه يـقـول: أشعر -يا فارس- بحزن مرير داخلي يشبه حزن شاب علم أن صديقته حامل منه، وقد حذرها من مغبة ذلـــك، فـشـاهـد لحظة مقتلها عـلـى يد أخـيـهـا، وهــي تنظر إلـيـه نـظـرة تـقـول فيها: (ادع الله لـي باملغفرة؛ كـي يسامحني على هــذا الـحـب، وعلى الخطيئة التي جمعتني
مــعــك... وداعــــا) فــي حــني كنت متسمرا أمام املشهد وعيناي تفيضان من الدمع. ويكمل ثامر لي وهو يقذف الحصى وسط الـــبـــحـــر: كـــم هـــو ســيــئ هــــذا الـــعـــالـــم املثخن بــالــحــزن والــــدمــــوع، نــحــن الــبــشــر ســفــلــة، ال نستحق مؤتمرات حفظ السام، بل نستحق الحروب العقدية -نعم نستحقها- يجب أن يـقـتـل بــعــضــنــا بــعــضــا؛ كــي تــرتــاح األرض، فلم يعد بوسعها تحمل جثث األنقياء التي نـدفـنـهـا كــل يــوم فــي جـوفـهـا، فالحقيقة أن الدنيا باتت تصلي؛ كي ينهي الله مسابقة الفوز بالجنة والكل يرتاح.
وعـــــن أصــــدقــــائــــه الــــذيــــن كــــانــــوا عـــلـــى منت رحلة عبارة السام، يقول لي بقلب مفطور مكلوم: مــات جـابـر الـشـاعـر الــذي تـحـرضـك كلماته على تجاوز عثرات الحب، ويغريك بالحياة من جديد. مــات سـالـم الــذي عشق الـعـود ودنـــدن عليه حتى أعـجـب بها املتحلقون حوله لسماعه في جلساتنا على الشاطئ. مـــات راكــــان املــصــاب بـعـشـق نـــادي النصر، وتحطيم حواجز الحزن حني تحيط املآسي بإنسان.