تركيا حتت املجهر
كـــان مـشـهـد ســيــدات ســوريــات عـلـى قــنــاة الــجــزيــرة وهن يحضرن الطعام بفرح، في ما يشبه مساكن مؤقتة لاجئن في تركيا في شهر أيار عام 2011، مشهدًا مثيرًا للحيرة فـي وقـتـه. بعد إجــراء املقابلة مـع سـيـدات كــررن بإسهاب غريب عبارة «نحنا مبسوطن كتير هون»، جالت كاميرا قناة الجزيرة على األراضي املتاخمة، الواقعة في أقصى الجنوب الغربي من األراضي التركية والتي امتألت بآالف الخيم الجاهزة والـفـارغـة. صـدق مذيع الجزيرة حينها عندما أدار وجهه للكاميرا وقال «ستمتلئ هذه املخيمات قريبًا.» املثير للحيرة أن لكنة ولـبـاس السيدات لـم يكن يماثل اللكنة والزي التقليدي السوري املعتاد في القرى املتاخمة للحدود السورية التركية، كما أن حادثة جسر الشغور الشهيرة والتي قتل خالها 120 جنديًا وشرطيًا ســوريــًا حصلت فــي حــزيــران عــام .2011 وهــي الحادثة التي تم على إثرها حصار املدينة وقصفها، ومن ثم بدء لجوء العائات والهاربن من األهـوال بوتيرة أسرع إلى األراضي التركية . ال يمكن إنكار استيعاب واحتضان تركيا لثاثة ماين الجـــئ ســــوري مــنــذ بـــدء األزمـــــة، كــمــا أن فــداحــة الكارثة اإلنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبت في سورية على مدى 7 سنوات ال تحتاج إلعادة توصيف. بما أن تركيا لم تختر أن تدير وتستوعب تبعات الحرب في سورية فقط، بـل جـنـدت جهودها لتدريب ودعــم املجموعات املقاتلة والـقـيـام بعمليات عسكرية، فــإن االسـتـفـسـار عـن نمطية الـتـدخـل لـلـدولـة الـتـركـيـة واملــبــرر األخــاقــي املـمـهـد الذي ترتكز عليه تركيا هو من ضمن األسئلة املشروعة. كيف بــررت تركيا دورهــا الفاعل في الجهود الرامية إلسقاط النظام فـي دولــة جــارة؟ هـل مـن مصلحة الــدول العربية تفنيد أو التعامل مع سابقة التدخل السياسي والعسكري التركي في املنطقة العربية بحيادية؟ اهتمام تركيا باملنطقة العربية لـم يبدأ فـي عــام 2011 أثــنــاء انـــدالع مــا يسمى بـــ «الــثــورات الـعـربـيـة»، بــل كانت نــخــب تــركــيــة تــؤدلــج مــنــذ نــهــايــة الـتـسـعـيـنـات لضرورة الــتــعــامــل والـــتـــعـــاون مـــع املــحــيــط الــعــربــي لــكــونــه يمثل االمـــتـــداد الـطـبـيـعـي لـلـنـفـوذ الــتــركــي مــن وجــهــة نظرهم. وزيـــر خـارجـيـة تـركـيـا الـسـابـق محمد داوود أوغــلــو في كـتـابـه «الـعـمـق اإلسـتـراتـيـجـي» املـنـشـور فــي عــام 2001، بـادر بتوصيف الحيز الجغرافي الجنوبي لتركيا بأنه عمقها األيـديـولـوجـي وأنـــه سيكون مـصـدر قــوة لتركيا سـيـاسـيــًا واقــتــصــاديــًا. لــم يــر وزيــــر الــخــارجــيــة السابق والرئيس أردوغــان حرجًا في مقابات الحقة من انتقاد التعجرف األوروبــي في رفضه النضمام تركيا على أنه نابع من منظور ديني عنصري بحت، حيث أملحا أن ما يعيبه األوروبيون هو بالذات مصدر قوة تركيا. وفعا بـــدأت تـركـيـا فـتـح مــجــاالت الــتــواصــل مــع الــــدول الجارة الجنوبية اقتصاديًا وثقافيًا وسياحيًا بن عامي 2002 و2010، بل امتد هـذا التواصل إلـى دول آسيا الوسطى ودول جنوب آسيا. كـان توظيف القوة الناعمة التركية خــال هــذه الـسـنـوات نابعًا حـصـرًا مــن اإلرث اإلسامي، اإلثنية التركية والتاريخ املشترك مع دول املنطقة. ولكن التوظيف العملي ملبدأ العمق اإلستراتيجي انحرف عن مــســاره بعد 2011، وبـــدأ ينتهج منهجًا قسريًا يتحن فرص عدم االستقرار لتسويق النموذج اإلسامي املدعوم من تركيا . الدعم التركي للمجموعات اإلسامية املسلحة في ليبيا بعد سقوط معمر القذافي، والتي كان من ضمنها أنصار الشريعة املتحالفة مع تنظيم القاعدة، كان بمثابة إعان تـوجـه لـدولـة قــررت أن تجند إمكانياتها لتشكيل بنية الحكم لدول الجوار. مع تكرار التوجه والتفاعل التركي في كل من أزمة الحكم في مصر بن عامي 2011 و2013 الداعم لحكم اإلخــوان املسلمن، باإلضافة لتوفير الدعم للمجموعات املسلحة في سورية، فإن ثمة صورة نمطية بدأت تتشكل ملاهية األهداف السياسية التركية في الوطن العربي. عند مراجعة التصريحات الرسمية التركية التي تناولت الشأن الليبي أو املصري أو السوري بعد 2011 نجد أن التعابير املسوغة للتدخل تتراوح بن: دفع ظلم الطغاة الذي يحيق باملستضعفن من أهل السنة، التمكن والدفاع عن وصول اإلسامين للحكم، الدفاع عن اإلرث الــتــاريــخــي الــعــثــمــانــي، الـــدفـــاع عــن أعـــــراض وممتلكات املــســلــمــن. ال يــخــفــى أن هــــذا الـــنـــوع مـــن التصريحات الشمولية تتميز بمرونة التماهي مع األزمــات الداخلية التي عصفت في السنوات السبع املاضية ببعض الدول، أو التي قد تعصف بدول عربية أخرى في املستقبل. كما ال يخفى أن الرئاسة في تركيا تعرض الزعامة التركية في منطقة الشرق األوســط من منظور املخلص واملنقذ. آن األوان لتسليط الضوء على سياسة تركيا تجاه الدول العربية إلعادتها داخل إطار االحترام املتبادل والتعاون الندي. كما يجب رفض التلميحات الرسمية التركية عن ضـــرورة تـأمـن املـقـدسـات اإلسـامـيـة فـي مـعـرض تهييج الـــــرأي الـــعـــام حــــول مــصــيــر الـــقـــدس، أو اإلشــــــارة إلــــى أن حكومات بعض الدول التي ال تروق لتركيا على أنها دمى ألمريكا. التجاوزات الخطرة للسياسة التركية في املنطقة والتي استغلت فترة عـدم االستقرار التي نتجت عن ما يسمى الربيع العربي، يجب التوقف عندها والعمل على إعادة العاقة مع تركيا إلى مسارها الصحيح. * رئيسة مركز دراسات المخاطر السياسية في الشرق األوسط وشمال أفريقيا في الواليات المتحدة األمريكية.