جودة احلياة وفلسفة املدينة!
ال يـــكـــون اإلنـــســـان ســعــيــدًا حــتــى يـــأمـــن من الــخــوف وال يــأمــن مــن الــخــوف حـتـى يكون للحياة عنده هدف ومعنى، وال يتحقق ذلك ما لم يكن منتميا، وال يكون منتميا، حتى يحقق هويته الثقافية، وال يحقق هويته الثقافية، من دون أن يكون له دور حضاري مشترك مع اآلخرين، وال يكون لإلنسان دور حضاري، من دون فلسفة. إن أكبر املـدن في العالم مهما بلغ تخطيطها العمراني ومهما توفر لسكانها من الخدمات وسبل العيش الحديثة، ليست أكثر من تجمعات فوضوية، ولو كان سكانها من ذوي الــشــهــادات العلمية العليا ومـــارس سكانها أرقى املهن، ما لم تتأنسن تلك املدن بطباع سكانها وبتحضر سلوكياتهم تحت سقف فلسفة الحضارة. وإن مدينة صفيح في شرق العالم أو غربه، يتشارك أهلها خبزة الهم املشترك دونما استعالء من بعضهم لبعض ويــشــرب سـكـانـهـا املـــاء اآلســـن دونــمــا انــتــقــاص بعضهم لبعض، لهي أقرب للحضارة. ما معنى سعادة الفرد إذا كانت تلك السعادة محاصرة بــســيــاج مــن الــخــوف وعــلــى بــعــد أمــتــار مــن مستنقعات البؤس والحرمان واألمية والطائفية والعصبية القبلية يتحجر فيها الضمير والقانون مخلفة وراء ها التوحش والتربص والتوجس وعدم الثقة ؟ مــمــا تــقــدم، يـمـكـن قـــــراءة وفــهــم إعــــالن مـجـلـس الشؤون االقتصادية والتنمية عن برنامج جــودة الحياة 2020 وهو أحد البرامج التنفيذية ملحاور رؤية اململكة ،2030 والذي يرمي هذا البرنامج لتهيئة البيئة الالزمة لتحسني نــمــط حـــيـــاة الـــفـــرد واألســـــــرة ولــتــولــيــد نــطــاقــات وآفــــاق جديدة تؤكد املشاركة في األنشطة الثقافية والترفيهية والرياضية وأنماط حياتية أخـرى مالئمة ملثلث: الفرد واألسرة و البيئة، فضال عن خلق فرص العمل والفرص االســتــثــمــاريــة، نــاهــيــك عـــن تــكــريــس مــكــانــة املــمــلــكــة في الترتيب العاملي ألفضل املدن. هـنـاك عـالقـة تفاعلية طـرديـة بـني عنصر جــودة الحياة للفرد واألســرة والبعد الحضاري للمدينة التي يعيش بها هــذا الـفـرد وأســرتــه بالتقاطع وااللـتـقـاء مـع العامل البيئي. كانت رحلتنا مضنية كمجتمعات خـالل عقود مضت، ســادت خاللها قناعات واسـعـة بــأن املــال هـو مـا يصنع الــحــيــاة وجــــودة الــحــيــاة والــســعــادة ومـــا بـعـد السعادة ووراءهـــــــا ومــــا فــوقــهــا وتــحــتــهــا، فـــــراح الــبــعــض «ممن يملكون»، ينقبون عن جودة الحياة والسعادة في حدود املتاح داخـل مثلث بالغ التشدد: -1 املمنوع، -2 العيب، -3 الــحــرام. فكانت النتيجة أن اضطر البعض الفتعال سـعـادة وهمية باللجوء للمبالغات واإلفـــراط باملسكن واملـركـب واملـأكـل وكمية العالقات والسفر واالحتفاالت باملناسبات التي تستحق أو التي ال تستحق فنبتت مع هــذه الثقافة الـطـارئـة، ثقافة املـفـاخـرة و«املـهـايـط» على حــســاب الـبـسـاطـة والــحــيــاة الطبيعية. ونـبـتـت مــع هذه الـثـقـافـة الــطــارئــة، عـنـصـريـة شــديــدة لـــدى الـبـعـض منا، تــضــرر مــن هـــذه الـعـنـصـريـة فــئــات كـثـيـرة مــن مواطنني ومقيمني بيننا. هــنــاك الــكــثــيــر مـــن الــظــواهــر الــتــي يــشــهــدهــا مجتمعنا السعودي وبعض املجتمعات العربية القريبة واملماثلة، بــحــاجــة لـــدراســـات مـتـعـمـقـة ومــســتــمــرة ملــعــرفــة التأثير والـعـالقـة بــني هــذه الـظـواهـر واملـسـبـبـات والـنـتـائـج. فقد تكون هذه الظواهر سببًا في مرحلة ونتائج في مرحلة أخـــرى أو قــد تــكــون االثـنـتـني مــعــًا. فـالـتـشـدد والتعصب لـــلـــرأي، ونــســبــة حـــــوادث الــســيــر وبــعــض األمــــــراض مثل السمنة خاصة بني األطـفـال والنساء وهشاشة العظام.. إلخ. يقول املفكر الفيلسوف مونيس بخضرة في كتابه تاريخ الوعي، إن ازدهـار وتطور أية دولة يعود في األصل إلى ازدهار مدن تلك الدولة، وألن أريافنا ال تزال متفوقة على مدننا، تسبب ذلك بنوع من االضطراب في املجتمعات، فإذا كانت املرحلة األولى اتسمت بوالدة املدينة من رحم األريـاف، فإن املرحلة الثانية تتسم بالصراع بني املدينة مــن جهة والــريــف والــبــاديــة مــن جهة أخـــرى، فيما نحن (حسب بخضرة) ال نزال نتوق لتغلب املدينة على الريف باملعنى القيمي الحضاري. لكننا نتطلع اليوم إلـى أن مدننا على موعد في تناغم وحيوية مع جــودة الحياة وبقية برامج ومـحـاور رؤية اململكة 2030 كي يعود البعد الحضاري ملدننا في عالقة تفاعلية بني املدينة وسكانها، دون حاجة ألسوار املدينة التي كانت تقام في ما مضى حـول أغلب املــدن العريقة وألسباب أمنية. * كاتب سعودي