مثقفون لـ : جامعاتنا.. فكر تقليدي ودور تنويري مفقود
كان التعليم وال يزال هو الطريق األول للتنوير، وما عرف بعصر األنوار في أوروبا كان قائمًا على العلم واملعرفة، وربـمـا عــرف الـعـالـم الـجـامـعـات منذ 1000 عــام تقريبًا، وكانت جامعات العواصم واملدن نواة التنوير للمجتمع وســـارت بــه قــرونــًا نحو خـدمـة الـحـيـاة واألحــيــاء بالفكر واالخـتـراعـات العلمية املختلفة وتحريره من التقليدية والعادية والوصاية الكهنوتية، إال إن عددًا من املثقفن واألكاديمين رأوا أن الجامعات السعودية لم تقم بالدور التنويري املأمول منها، بل إنها حاربت التنويرين في فترات سابقة وكرست التخلف واألفكار املتشددة. ويـــرى املـفـكـر إبــراهــيــم البليهي أن الــبــدايــة لتحديث أي مـجـتـمـع تــكــون بــأفــكــار ريـــاديـــة خـــارقـــة مــغــايــرة ملـــا هو سائد، وإذا اقتنع بها قـادة الفعل واستجابوا استجابة إيـجـابـيـة كـافـيـة تـغـيـرت طـريـقـة التفكير واتــجــاه حركة املجتمع وتـبـدلـت مــســارات الـنـشـاط وتــحــددت الــرؤيــة ملا يجب فعله وإنـجـازه، مشيرًا إلـى أن تحديث املجتمعات وتنميتها يقتضي تبديل اتـجـاه السير وتغيير طريقة التفكير وإعـــادة ترتيب منظومة القيم وتغيير محاور االهتمام، إذ ال يمكن أن ينمو أي مجتمع بنفس األفكار والــتــصــورات واالهــتــمــامــات الـسـابـقـة لـلـتـحـديـث. ويرى الـبـلـيـهـي أن جــامــعــاتــنــا لـيـسـت بــريــئــة مـــن تـسـبـبـهـا في تكريس وترسيخ التخلف، كونها تنمي وتعزز القناعات التقليدية القائمة. فـيـمـا يــذهــب أســتــاذ عـلـم اإلنــســان الــدكــتــور سـعـيـد فالح الغامدي إلى أن تجربته املمتدة لخمسة عقود مع جامعة امللك عبدالعزيز كشفت له أن البناء األكاديمي واملعرفي للجامعة اخترقته األسلمة املتشددة وحاصرت أي شمعة تـنـويـر، بــل أسـهـمـت فــي إطــفــاء الــنــور ونـبـذ التنويرين، مستعيدًا تـجـربـة دعـــوة كـلـيـة الــعــلــوم االجـتـمـاعـيـة أحد كبار أساتذة جامعة اإلسكندرية ليلقي محاضرة، وبعد وصــولــه للمملكة بـــدأت املـمـانـعـة واتــهــام الرجل فــــي عــقــيــدتــه وأنــــــه يــحــمــل أفــــكــــارًا صادمة وقناعات إلحادية، مؤكدًا أنه لوال تدخل بعض املسؤولن على استحياء ملا تمت املحاضرة، وأبدى فالح أسفه أن مكتبات الــجــامــعــات تــرفــض الــكــتــب التنويرية والفلسفية، وتعمل على فرز ما يتوافق مـــع اتــجــاهــات تـقـلـيـديـة وتــقــبــلــه ومـــا ال ينسجم تمنع وصوله لرفوفها ولطالبها، مشيرًا إلـى أنـه طيلة العقود املاضية اقتصر دور الــنــشــاط الــثــقــافــي فـــي عــــمــــادات شؤون الــــطــــالب عـــلـــى دعــــــوة الـــــوعـــــاظ والخطباء لــلــحــديــث عـــن عـــــذاب الــقــبــر ومــــا ينتظر الناس من ويالت في الدار اآلخرة، نافيًا أن يكون للجامعات وجامعته تحديدًا أي دور تنويري كــون القائمن عليها غالبًا يحاربون التنوير والتنويرين. ويذهب القاص عمرو العامري إلى أننا لــن نــكــون منصفن لــو طـالـبـنـا الجامعات بــــدور تــنــويــري وهـــي جـــزء مـــن مـجـتـمـع شاء لــه قـــدره فــي لحظة مفصلية أن يـكـون خارج التنوير وألسـبـاب ليس مكانها هنا. وأضــاف العامري: عندما كـان املجتمع متنورًا ومتسامحًا وينمو طبيعيًا كــان للجامعات دورهـــا الـتـنـويـري كـجـزء مــن كــل، طبعًا واألمـــــور هـنـا نـسـبـيـة وتـخـتـلـف مــن جـامـعـة إلـــى أخرى. ونــتــذكــر أنـــه كـــان لــجــامــعــة املــلــك عــبــدالــعــزيــز مــثــال دور مؤثر فـي إطــالق الـتـيـارات األدبـيـة والفكرية أو مـا أطلق عليه تـيـار الـحـداثـة، لكن ذلــك كــان عبر شـخـوص وليس مــؤســســات كــأطــروحــات الــدكــتــور عــبــدالــلــه الــغــذامــي من خالل كتابه الشهير الخطيئة والتكفير ومن خالل أسماء كالدكتور علي البطل، محمد الكردي، منذر الـعـيـاشـي، عـلـي حــرب وآخرين، وقـد خـرج هـذا الـحـراك من أســـــوار الــجــامــعــة نحو املجتمع، وأفـــرز تيارًا حـداثـيـًا أدبـيـًا مـا لبث أن انــعــكــس عــلــى واقع الحياة والفكر ومن خالل زلزلة ومس مفاهيم تقليدية. وحمل العامري الصحوة مسؤولية نـــكـــســـة الـــــحـــــداثـــــة ومـــــــا تــــالهــــا من تـــجـــاذبـــات وتــســنــم الجامعات أسماء عطلت هـذا الحراك وسعت به نحو معارك هــــامــــشــــيــــة وبــــعــــيــــدة عــن الــفــضــاء املعرفي، مستعيدًا دور جامعة املـــلـــك ســـعـــود (الــــريــــاض) عــلــى مــســتــوى املـــســـرح. ويرى الـــعـــامـــري أنــــه مـــا زالـــــت جامعاتنا وحـــــــتـــــــى اآلن وبـــــــعـــــــد تطلعات وطـمـوحـات سمو ولــي العهد ورؤيـــة 2030 فــي النسق التقليدي املحافظ ذاته، وربما ألن األسماء ذاتها ما زالت هـي الفاعلة فـي تلك الـجـامـعـات. ومـــازال املـسـرح معطال والرؤية الفنية ال تتجاوز األوبريتات الغنائية وحركتي النشر والترجمة وحتى املؤتمرات في إطارها التقليدي املحافظ. مؤكدًا أن جامعاتنا بحاجة إلعادة هيكلة. ويــؤكــد األكــاديــمــي الـدكـتـور سعد الثقفي أن الجامعات كـانـت - واألصـــل أنـهـا لــم تــزل - مــنــارة ومــراكــز للتنوير والحضارة ابتداء من جامعة قرطبة، وليس انتهاء بهذه الجامعات التي تراها هنا وهناك، إال أن الجامعة في العالم الثالث فقدت هـذه األهمية ؛ فلم تعد مركز إشعاع حضاري وال تنويري شأنها شـأن أيـة مؤسسة علمية تنتهي مهمتها في إعطاء الشهادات للدارسن بـــعـــد تـــدريـــســـهـــم. وعـــــــزا تــخــلــيــهــا عن دورها لسببن، أحدهما: سيطرة كوادر جامعية في رئاسة الجامعة وعمدائها ال يعترفون أصال بدور الجامعة التنويري، فهم إمــا مـن املحسوبن على الطبقة الدينية املتزمتة أو مــن أولــئــك الــذيــن يتحسسون من رسالة الجامعة التنويرية، ما أحالهم إلى أعــــداء لـلـثـقـافـة والــفــن واإلبـــــداع والفكر، وأدى إلـــى ضــمــور هـــذه الـخـاصـيـة في الجامعة، وخشية الطالب والطالبات من االقتراب منها خوفًا من فكر هؤالء، واآلخــــــر وجـــــود فــريــق لــيــس متطرفًا، لكنه ال يعي دور الجامعة التنويري، وال يعترف هو اآلخــر بغير الــدرس التعليمي املــحــض، فـتـحـولـت الـجـامـعـة بـسـبـب سيطرة هذين النقيضن إلى مركز تعليمي ال يختلف عــن أي مــركــز تعليمي آخـــر، ويــأســف الـثـقـفـي أن تبتعد الجامعة عن دورها الحقيقي في املجتمع، وتتحول إلى مــا يشبه املـحـمـيـات الـخـاصـة لبعض الـكـانـتـونـات التي تفكر بطريقتها وصبغت الجامعة بمنهجها، ويـرى أن تطوير التعليم وعودة الحياة في األمة، يبدأ من الجامعة وإعادتها لـدورهـا الحقيقي في قيادة املجتمعات نحو التغيير.