حتت كّل عباءة عشيرة وشيخ قبيلة
أفــــل نــجــم الــقــبــيــلــة بــعــد أن طــــوت خــيــامــهــا وأخلت مــضــاربــهــا وهــجــرت الـــبـــداوة الــصــحــراء. وأصبحت البقية الباقية من العشيرة والقبيلة مادة تتزين بها املتاحف وقصصًا تتغذى عليها البرامج واملسلسالت التلفزيونية واألفــالم الرومانسية والــروايــات الخيالية. فخالل العقود املاضية، هجر البدوي والـقـروي الريف والبادية إلى املدينة، ربما إلى األبد هـــروبـــا مـــن صــعــوبــة الــعــيــش وطــلــبــا لــالســتــقــرار والــحــيــاة األسهل واألوفر . لكن ورغم الهجرة الجماعية من الريف والبادية إلى املدن وأطرافها ورغم ما أحدثته هذه الهجرة من زلزال اجتماعي واقتصادي للعديد مـن املــدن والـعـواصـم خــالل العقود املـاضـيـة، إال أن مدنًا قليلة جدًا حـافـظـت عـلـى هويتها وطـابـعـهـا الـحـضـاري بــل وحـتـى أمـنـهـا ولم تتعرض لزلزال قيمي ثقافي ال ينسجم مع النسق الثقافي الحضاري للمدينة . العقلية العشائرية القبائلية ال تزال هي السائد وإن بدا مختفيًا وغائرًا في الظروف العادية. الــذيــن تـابـعـوا أحـــداث القصة األردنــيــة املــؤملــة وفهموا مالبساتها بأثر رجعي حيث تحولت من قضية جنائية بــن شـخـصـن إلـــى قـضـيـة أخـــرى بــن عـشـيـرتـن حيث تــوالــت األحــــداث وكــبــرت كــرة الـلـهـب بحجم عشيرتن وحــجــم تــأثــيــرهــمــا وثــقــلــهــمــا عــلــى الــســاحــة األردنية لتصبح قضية عشائرية بامتياز، فال يمكن أن تؤخذ القبيلة أو العشيرة بسلوك أحد أفرادها املنحرف، فضال عما صاحب كل ذلـك من تظاهرات وإطــالق نـار وربما قتل . هــؤالء يـدركـون ربما حجم حضور العشيرة والقبيلة في العقل العربي والضمير العربي، والثقافة العربية، ويـــعـــرفـــون حــجــم الــتــأثــيــر لـــهـــذه الــعــقــلــيــة والضمير املستتر لها في إعادة فرز األنا واآلخر رغم كل الروابط والوشائج االجتماعية واالقتصادية، ليصبح االحتكام فجأة لقانون العشيرة بدال من القانون والنظام السائد في البلد حتى لو كان على حساب حقوق اإلنسان وعلى حساب حقوق املواطنة وبصرف النظر عن حجم هذا املمنوع نظاما وقانونا. لـسـت بـصــدد تقييم أي مــن الـطـرفـن فــي الـقـصـة األردنـــيـــة، فالخطأ واضح، لكنني أبحث في العيب االجتماعي ومدى مطابقته للممنوع قانونًا حسب قانون البلد. هناك قــدرة عشائرية هائلة على إعادة إنتاج األحــداث بما ينسجم مع آلية الفرز بن األنــا واآلخــر وبشكل مـتـصـاعـد رغــم الـتـنـاقـض وعـــدم االنــســجــام وأحــيــانــا الــتــضــارب في املواقف . القصة األردنية موجودة في أغلب املجتمعات العربية واملدن العربية بشكل أو بــآخــر، ألن العقلية الـعـشـائـريـة ال تـــزال قـائـمـة وتستنسخ بالالوعي جيال بعد جيل. أنا هنا ال أنتقد باملطلق البعد العشائري والقبائلي، وال أحكم عليها لكنها تعكس أمرا مهما يتطلب الوقوف عــنــده ودراســتــه ومــراجــعــة الـكـثـيـر مــن معطياته بـعـد هــذا التاريخ الطويل للدولة الحديثة . مــا الــــذي يستنطق الـعـقـل الــعــشــائــري والــقــبــائــلــي، قـبـل استحضار القانون والنظام في عقلنا؟ هل هي أزمة االنتماء أم هي أزمة الثقة؟ وكيف يتعزز االنتماء والثقة بالقانون والنظام؟ ملــاذا يحضر هذا الــقــانــون الـخـفـي أو املـخـفـي أو يستحضر فــي مــواقــف مـعـيـنـة؟ هل االنتماء العشائري والقبائلي هو انتماء سياسي أم اجتماعي أم هو اقتصادي؟ في تصوري أن ثقافة االستهالك املستشرية والضاربة الجذور في املجتمعات العربية هــي السبب الـرئـيـس وراء العقلية العشائرية القبائيلية العربية، فحتى الطائفية واملذهبية في الثقافة العربية، ذات بعد عشائري قبائلي. لكن ال يمكن عالجها باستبدال الوالءات السياسية أو الطائفية واملـذهـبـيـة، إنـمـا يتم تعويضها عـن طريق استبدال الثقافة االستهالكية بالثقافة اإلنتاجية. داخل كل إنسان كائنان: كائن استهالكي وكائن إنتاجي، كل واحد من هذين الكائنن يعيش ويكبر ويتمدد على حساب اآلخر . ال يمكن أن تنجح في خلق مجتمع منتج وثقافة إنتاجية، في عقلية استهالكية وثقافة استهالكية، ما لم نستزرع قيم اإلنتاج وقانون اإلنتاج وعقلية اإلنتاج في املجتمع. ثقافة االستهالك ليست هي الشراء، فالشراء أمر طبيعي، إنــمــا ثـقـافـة االســتــهــالك الــتــي أقــصــدهــا هــو فـشـل الدول الحديثة في استنبات قيم اإلنتاج من خالل ثقافة املهنة والنقابات املهنية. وهذه تتطلب ثورة صناعية ومهنية حرفية يتحول فيها الوالء العشائري إلى والء مهني يتم بواسطة التعليم الصناعة والتأهيل الصناعي والتوسع بأعمال الحرف واملهن ونقابات العمل ونقابات املهن. مـــا يـهـمـنـي مـــن كـــل مـــا ســبــق هـــو أنــنــا هــنــا فـــي اململكة ومن خالل برامج التحول االقتصادي املنبثق من رؤية اململكة 2030، قد نكون بحاجة ماسة والتي تشير إلى أن مجتمعنا برمته مقبل على نهضة شاملة وتنمية كبيرة وهائلة، أقول أخشى من الثقافة االستهالكية الضاربة الجذور في مجتمعاتنا والتي قد تعرقل وتتسبب بالتعثر بعض مشروعاتنا. فاملجتمعات العربية كلها بدون استثناء هي مجتمعات استهالكية، والعقلية هي عقلية اعتمادية واتكالية على الغير، رغم بعض الشذرات اإليجابية هنا أو هناك. هذه الثقافة إذا لم تتم دراستها وتحليلها وتفكيك بنائها وإعــادة بنائها وتركيبها بأسس مهنية صناعية جـديـدة، سنبقى مجتمعات استهالكية وعقليات عشائرية اتكالية اعتمادية. فالعقلية العشائرية القبائيلية والثقافة االستهالكية هما وجهان لعملة واحدة، فتحت عباءة األولى يوجد شيخ قبيلة وتحت عباءة الثانية تنبت حشائش االتكالية واالعـتـمـاديـة على الغير بإنجاز العمل وانعدام املهنية .