Okaz

وجه بعيد.. زمن بعيد!

- د. فؤاد مصطفى عزب * fouad5azab@gmail.com

ال أفهم ملــاذا أشعر فـي هــذه األيــام أن دمعي سخي، يتدفق من ركن عيني حينما تهفو رائحة رمضان، ال أدري إن كانت فيروز تعنيها فعال عندما قالت: «أنا عندي حنني ما بعرف ملني»، ال أعتقد أن هــذا البيت الضيق يتسع إلــى كـل هــذا الـحـنـني، فأنا أحــن فـي هــذه األيـــام إلــى أيــام كــان الحلم يشبه الحلم ونحن.. تشبهنا، أحن إلى أيام كنا نتعرى فيها من ألقابنا وأسمائنا، نسرق الوقت لنكون فيها نحن، نحن بكل تفاصيلنا املهترئة، بعيدًا عن املجامالت واملهاترات والكذب الذي صنفوه في هذه األيــام إلى ألــوان، وكــادوا يعبئونه في أكياس جميلة كأكياس «الشيبس»، أحن إلى أيام كانت أمهاتنا يضعن في «الكانون» حبات «أبــوفــرو­ة» يشوونه ونأكله بشهية في آخـر الليل، قبل أن تــدخــل أجــســادن­ــا الـصـغـيـر­ة إلــى الــفــراش لـتـدفـئـه، هــل سمع أبـنـاء الـيـوم بجسد يدفئ فـراشـًا وليس العكس، أحــن إلــى أيام لــم يـكـن الـبـشـر مـشـغـولـن­ي، بــطــول وقــصــر الــثــيــ­اب، فــي الدخول بالقدم اليمنى أو باليسرى، من شرب «السوبيا» حالل أم حرام، فــي مصافحة املـــرأة مــن عــدمــه، فــي ضـيـق جلبابها واتساعه، أحــن إلــى صــوت األذان املــكــاو­ي الـــذي يـنـسـاب كــجــدول الضوء في عتمة العالم والـذي ازداد عتمة، أحن إلى ماء «الزير» وماء اإلبريق «التنك»، أحن إلى مركاز أبي ورش املاء أمام الدار بعد صالة التراويح، وإبريق الشاي املخدر، وصوت ضحكات رجال الـحـارة املتكئني على املقاعد الخشبية باطمئنان، ذاك املركاز الـذي محيطه العالم والدنيا والحياة، أحن إلى أيـام كنا نرفل فيها بثوب الصحة فيما نحن نشكو قلة اللحم، كنا نصمد على عـدم شرائها لكن ليس على اشتهائها، أحـن إلـى حبل الغسيل فــي الــنــواف­ــذ املــكــاو­يــة تحمل أســمــاال وخــرقــا ذات ألــــوان فاقعة ومـتـنـافـ­رة، أحــن إلــى أصــدقــاء العمر، عبدالله الـجـفـري، محمد صادق دياب، عبدالله أبوالسمح، من كانوا يضبطونني دائمًا متلبسًا بطفولتي املستترة خلف كومة من األسرار التي لم أكن أبــوح بها ألحــد ســواهــم، أرتـــاح أنـهـم ضبطوني متلبسًا، فأنا إنسان كغيري، فالبشر بحاجة إلـى شهيق البوح الــذي يخرج مع زفير الشوك، شوك نما عليه لحمي وشخصي، يأخذني كلما الح في األفـق عصفور يطير وحيدًا في سماء ملبدة باألسرار، حنني يرشح في كل رمضان بعد أن تنطفئ النجوم ليمر القمر في مداره مطأطأ الرأس فيدوس سحابة نام في سريرها الحنني فبكى، أحن ألمي وكيف كانت تتفحصني كلما عدت من السفر، تلتصق بي، تتحسس يدي وكتفي وكفي وال تكف عن البحث في عيني عن أثر التعب، تعرف بإحساس األم ما أمر به، تنظر إلى ما تحت جفني السفلي، تلك املساحة التي تتسع كلما تقدمت بك السنني، إلى شعري أو ما تبقى من شعري، كأنها تريد أن يعود إلى سيرته األولى عندما كان كليلة بال بدر، تنسى أنني كبرت، أنـظـر إلـيـهـا، أتــذكــر، ال أعـلـم أيــًا منا يـذكـر اآلخــر بـعـدد السنني وخطوات العمر التي ارتسمت على وجنتيها، جبينها، فمها، حتى أصبح وجهها كورقة شجرة من أشجار الجنة، أتحسس يدها، أرى العروق الخضر تتمرد على الجلد، أتفحص طولها املتواضع الذي يصل إلى دون ذقني، هي التي كانت تحملني إلى الطبيب، السوق، بيوت األقرباء واملعارف، إلى كل األمكنة، أراهــا تتقلص، تتراجع إلـى زاويــة العمر، أحضنها، أنظر إلى عينيها في كل سفر، فقد يكون البعاد األخير، وقد كان، أمضيت ثلث عـمـري بعيدًا عنها، وليتني لـم أفــعــل.. لكم أحــن فـي هذه األيام أن أغادر هذا الجسد وأهيم بعيدًا عنه أللحق بها وأقضي معها بقية العمر.. فقد أتعبني بعادها، أتعبني كثيرا.!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia