Okaz

صورة قاسية من كوريا الشمالية

-

كانت ولا تـزال كـوريـا الشمالية البلد الوحيد الــــذي أطــمــع فــي زيـــارتــ­ـه قـبـل أن تـصـلـه رياح الـتـغـيـي­ـر، فـهـي تـمـثـل غـمـوضـا مـفـرطـا ولغزا شـديـد التعقيد أمــام المتابع للأخبار اليومية، ويضيف ما يـجـري حاليا مـن حـديـث حــول الـلـقـاء المـنـشـود بـين الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون )لقبه الرسمي: رئيس هيئة شؤون الدولة(، بعدا ذا دلالة لكيفية صنع القرار في ذلك البلد المغلق والمثير للحيرة. قبل ثـاث سـنـوات قــرأت كتابا عنوانه )الـزعـيـم العزيز The ‪Dear Leader‬ ) روى فيه الكاتب )جانغ جين – سونغ ‪Jang Jin‬ Sung)- حياته كشاعر خاص للزعيم الكوري الشمالي الراحل كيم جونغ ايل )والد الزعيم الحالي( ومن خاله يقدم شرحا مـذهـا حـد الـرعـب عـن الحياة فـي ذلـك البلد والـخـوف الذي يعيشه كل إنسان، والتناقض المريع في مستوى الحياة بين الناس العاديين وبين طبقة المرتبطين بالزعيم والحزب الذين يـحـظـون بـكـل الامــتــي­ــازات المعيشية والـرفـاهـ­يـة )النسبية(. كـان الكاتب واحــدا منهم بعد أن بـدأ حياته فـي قسم الأدب بالدائرة المختصة بالحرب النفسية التابعة للجبهة الوطنية المتحدة في الحزب الحاكم )حزب عمال كوريا ‪-Korean Wor‬ ‪ers Party‬ ،) وهي المعنية بمتابعة كل ما يدور عند «الأشقاء» في الشطر الآخر من كوريا )كوريا الجنوبية( وتحليله وكذا بـث الـدعـايـة الـتـي تساهم فـي جـذب تعاطف الجنوبيين مع الشماليين. يـقـول جـانـغ جـين سـونـغ إنــه حـظـي بـمـكـانـة خـاصـة بـعـد أن كتب قصيدة نالت إعجاب )الزعيم العزيز(، فأصبح بعدها مـن الــدائــر­ة المـقـربـة مـنـه مـا سـمـح لـه بـالـحـصـو­ل عـلـى المزيد مـن الحصص الغذائية والأهــم مـن ذلـك الحماية السياسية. لكن ذلـك الأمـر لـم يكن يمنحه الحصانة الكاملة مـن قبضة الأمـن فقرر الـفـرار إلـى كـوريـا الجنوبية عبر الصين بعد أن أضــاع رفـيـقـه )يـونـغ مـين ‪Young Min‬ ) كـتـابـا غـيـر مسموح بتداوله خـارج دائــرة القسم الـذي يعملون بـه، مـا يجعلهما عرضة للعقاب الشديد مع أسرهم إذا ألقي القبض عليهما أو أحدهما، فقررا أن استمرار المقام يعني نهايتهما. يصف الكاتب رحلتهم عبر نهر تومبن Tumen() المتجمد حينها إلـى أن وصـل الحدود الصينية، ثم أخيرا الـى سفارة كوريا الجنوبية في بكين، بينما لم يتمكن رفيقه من إنهاء الرحلة، اذ ألقت السلطات الصينية القبض عليه وقـررت إعادته إلى كـوريـا الشمالية، لكنه فضل الانـتـحـا­ر خشية الأهــوال التي سيلقاها، فرمى نفسه من رأس جبل. عند الحديث عن الكيفية التي تدار بها السياسة الخارجية لـكـوريـا الـشـمـالـ­يـة، يـقـول الـكـاتـب إنـهـا تعتمد عـلـى اعتبار المــفــاو­ضــات وسـيـلـة لـلـخـداع أكـثـر مــن كـونـهـا تـفـاوضـا، مع افــتــراض عــدم الـثـقـة فــي الــطــرف الآخــــر، ويـتـحـقـق نجاحها بسبب الغموض الــذي يحيط بصنع الـقـرار فـي بـيـون يانغ وأصبح مصدر قوتها، وينبه إلى أن الولايات المتحدة ستقبل أي طـرح يقدم إليها طالما كـان منطقيا، بينما يمكن ابتزاز اليابان عاطفيا وتجاهل كوريا الجنوبية. يضرب الكاتب مثالا فيقول إنـه عندما تولى اليسار الحكم في سيؤول عـام 1998 أعلن عن سياسة )نـور الشمس -Su shine) لإدخال الدفء للعاقة مع الشمال واعتبارها سياسة تصالحية، وفـي ذات الفترة ضربت موجة جفاف استمرت خمس سنوات في الشمال 1994)- 1999( فبدأ كيم جونغ إيل يفقد قدرته على السيطرة على الأوضـاع بسبب المجاعة مـا جعله يـتـعـامـل إيـجـابـيـ­ا مـن سـيـاسـة الـجـنـوب الجديدة، وذلك أتاح له الحصول على مساعدات هائلة لإنقاذ المواطنين مــن المـــوت جــوعــا، وفــي المـقـابـل لــم يـقـدم أكـثـر مــن الانفتاح الكاذب والوعود الوهمية وكـرس لذلك سياسة أطلق عليها إستراتيجية )استغال سياسة نور الشمس(. الكاتب يضع صورة كئيبة عن الأوضاع الإنسانية في كوريا الشمالية ولا يـسـع الـقـارئ إلا الـتـعـاطـ­ف مـع كـل مـن يعيش قـسـوة الـحـيـاة هـنـاك حتى وإن اختلف مـع الـنـظـام، ويصف الكاتب فترات الجوع التي تمر بالناس هناك بأبيات شعرية استقى معانيها من امرأة متسولة التقاها قبل فراره، فسألها عن الطعام الذي ترغب فيه وتريده لإخوتها. انتحبت المرأة وروت له قصتها فكتب على لسانها: قبل أشهر ثاث، قال أخي ألذ مذاق في العالم هو كوز الذرة الدافئ. قبل شهرين، قال أخي ألذ مذاق في العالم هو الجراد المشوي. قبل شهر، قال أخي ألـذ مـذاق فـي العالم هـو حلمي الليلة الماضية أنـي حصلت على غذاء. لو كان أخي حيا اليوم ما عساه يقول هذا الشهر، والشهر القادم ما هو ألذ مذاق في العالم؟.

 ??  ?? مصطفى النعمان * mustapha.noman@gmail.com
مصطفى النعمان * mustapha.noman@gmail.com

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia