بناء فقه المواطنة
من أصداء مؤتمر أبوظبي الذي عقد الأسبوع قبل المـاضـي، ذلـك المـحـور الـذي يمثل تحديا وهدفا للمؤتمر: المجتمعات المسلمة.. الفرص والتحديات، وهو محور فقه المواطنة، جاءت مفردات المحور متعددة ضمنا في الكثير من محاور اللقاء، وتم تخصيص محور كامل تحت عنوان: الانتقال من فقه الضرورة إلى فقه المواطنة. هنا لا بـد مـن مـواجـهـة الآتــي: ثمة حـالـة مـن التيه تسيطر عـلـى قـضـايـا الـوطـنـيـة والمــواطــنــة والـــدولـــة الـحـديـثـة في مختلف المصنفات والكتب الفقهية التراثية والكتب الفقهية الحديثة التي تتكئ عليها، فالدولة الوطنية الحديثة تمثل آخر منتج توصلت إليه الحضارة الإنسانية كإطار لتنظيم حــيــاة المـجـتـمـعـات وإدارة الــعــاقــة بـيـنـهـا وبـــين أفرادها الداخليين، ذلـك المنتج لم تدركه كتب الفقه التراثي زمنيا وبالتالي فليس ثمة حـاجـة للبحث عـن تأصيل للوطنية من خال الفقه القديم. هناك ما هو أهم وأكثر عمقا ويمكن أن يمثل مستندا دينيا وتاريخيا ننطلق منه في تأصيل مفهوم المواطنة لا شكلها، وهـو ما ذهـب إليه المؤتمر بكل نجاح؛ إنها وثيقة المدينة. مثلت تلك الوثيقة منطلقا مهما لأبــرز وأهــم قيم الحياة المـدنـيـة وهــي قـيـمـة الـتـعـايـش بــين المـتـنـوعـين والمختلفين ديـنـيـا، لقد جعلت الوثيقة مـن المـكـان والمـصـالـح المشتركة مبررا للتعايش، ومثلت إعاء من شأن الاختاف. بالتأكيد أن ذلــك لـم يـكـن نـمـوذجـا لـلـدولـة المـدنـيـة الـحـديـثـة الكامل، ولكنه مثل تأسيسا لزمن المدنية، والتي يعد التعايش من أبرز وأهم مقوماتها. نصت الوثيقة على حزمة مهمة ومحورية من القيم تدور حـول حـريـة الاعـتـقـاد والمـصـالـح المشتركة وحماية الأرض وتمكين مختلف المكونات الاجتماعية من أن تحمي حقوقها ومصالحها في الإطار الجماعي العام بما يؤسس لمجتمع جديد يتجاوز الأنماط التي كانت سائدة قبل ذلك. السؤال الأبـرز يجب أن يتمحور حول الغياب الذي شهدته وثيقة المدينة في كثير من المؤلفات الفقهية القديمة على مستوى كونها تأصيا لمجتمع جديد وكيف تغلبت قضايا الخصومة والأحـاديـة والمـواجـهـات بـين مختلف الطوائف والملل؟ انتقلت كل تلك المواجهات والصخب الـذي رافـق كثيرا من المـصـنـفـات الفقهية الـتـي انـشـغـلـت بتفاصيل الـسـلـوك عن القيم لتصبح جزءا مهيمنا على التدين، وغابت أفكار وقيم التعايش، وانتقلت بذلك لتصبح النسخة الرائجة للتدين. المـسـلـمـون فـي الـبـلـدان غـيـر المـسـلـمـة كـانـوا فـي مواجهة كبرى مع ذلك التحدي الثقافي، وزاد الأمر سوءا وجود تـلـك الـتـنـظـيـمـات الـحـركـيـة الــتــي سـيـطـرت عـلـى المنابر والمساجد الدعوية في أوروبا وغيرها وعمقت من غربة المسلمين هـنـاك، كـان )فقه الـضـرورة( أعقد تلك الأدوات وأكثرها تسببا في اضطراب وتراجع قيم التعايش لدى تلك المجتمعات المسلمة. اليوم حيث يؤسس المركز الذي أطلقه المؤتمر عما وتوجها جـديـدا يـخـدم الإســام أولا ويـخـدم تلك المجتمعات ويبرز القيم المدنية التعايشية الكبرى التي تمثل أساسا محوريا للعاقة بين تلك المجتمعات وأوطانها، يؤسس المركز لأن يكون المسلم في تلك المجتمعات مواطناً أولا وعنصراً من عناصر التنوع الذي يتكامل مع تلك المجتمعات، وقد وفق المـؤتـمـر لإيـجـاد المـرجـعـيـة الـتـاريـخـيـة الأمـثـل وهــي وثيقة المدينة بصفتها نموذجا مبكرا لإقرار التنوع. سيواجه هذا المشروع الضخم والنوعي الذي دشنه الموتمر مجموعة من التحديات تتمثل في الخطاب الوعظي المنبري الأحــادي، وهـو ما يمكن التغلب عليه ببناء منابر جديدة معتدلة، وأيضاً بأهمية إحياء وتوسيع انتشار مصطلح فـقـه المــواطــنــة وإبــــــراز مــا يـمـثـلـه مــن خـيـر لـحـيـاة الأفــــراد ومستقبلهم فـي تـلـك الـبـلـدان، إضـافـة إلــى أهـمـيـة تكثيف العمل مـع المـؤسـسـات الفقهية الشرعية فـي العالم العربي والإسامي والتي يهيمن على كثير منها المنهج التقليدي في التفكير والنقل. إن النجاح المستقبلي للمؤتمر والمركز لن يكون مثمرا ومفيدا لتلك المجتمعات ققط، بل ستنعكس آثاره على المجتمعات العربية المسلمة التي ما زال الوعي المدني والخطاب الشرعي فيها بحاجة لمزيد من الواقعية والاعتدال.