Okaz

الصيام.. من السكوت إلى السلوك

-

مــــــع أن الــــصـــ­ـيــــام ورد بمعنى اجـــتـــن­ـــاب األكـــــل والــــشــ­ــرب، إال أن القرآن الكريم حكى لنا عن صيام مـــن نـــــوع آخــــر يــرجــع إلــــى أزمنة األمم السابقة، أال وهو الصيام عن الكالم! فعندما حملت مريم عليها السالم بعيسى ووضعته، أمرها الــلــه تـعـالـى أن تتسلح بالصيام عن الكالم وتواجه به التهم التي سيوجهها لها قومها، ولعل نطق عيسى عليه السالم في املهد كان من آثار هذا السكوت املهيب وبركاته. لقد أمــر الله مريم عليها الـــــســ­ـــالم قــــــائـ­ـــــال: «فكلي واشربي وقري عينا، فإما ترين من البشر أحدًا فـــقـــول­ـــي إنـــــي نـــــذرت لـــلـــرح­ـــمـــن صومًا فـــلـــن أكــــلـــ­ـم اليوم إنــســيــًا». ونالحظ هــــنــــ­ا أن الـــــقــ­ـــرآن الكريم يعتبر مريم عليها السالم صـــائـــم­ـــة مـــــع أنــــهـــ­ـا كــــانـــ­ـت تأكل وتشرب. إن الـصـمـت والــتــأم­ــل الــهــادئ من الـــــضــ­ـــروريـــ­ــات الــــتـــ­ـي تحتاجها الـنـفـس الــبــشــ­ريــة. كـثـيـرًا مــا يجد اإلنسان نفسه بحاجة إلى االمتناع عـن الـحـديـث وفـتـح منافذ الذهن والعكوف على طاولة التفكير. مــن املــشــاه­ــد الــيــوم أنــنــا جميعا مـــــغـــ­ــرمـــــو­ن بــــأحـــ­ـاديــــثـ­ـــنــــا، حتى عـــنـــدم­ـــا نـــســـتـ­ــمـــع إلـــــــى اآلخــــري­ــــن فـإنـنـا نـفـكـر فـيـمـا ســنــقــو­ل، ال في مــا يــقــول مــن يـجـلـس أمــامــنـ­ـا. إن اإلنـــــس­ـــــان بــــن الــفــيــ­نــة واألخـــــ­ــرى يحتاج إلــى لحظات مـن الصمت يـتـفـكـر فـيـهـا حـــول نـفـسـه وحول الـــوجـــ­ود ويـــضـــي­ء غــيــاهــ­ب قلبه املظلمة بأنوار روحه التي تستمد ضياءها من أصفى وأعظم مورٍد في الكون. إن الصمت يعد تدريبًا مهمًا في كافة األديان، فهو يداوي الــنــفــ­س ويــشــحــ­ذ الــفــكــ­ر ويشحن عزيمة اإلنـسـان. لقد كـان الصمت صـعـبـًا دائـــمـــًا، إال أنـــه فــي زمننا الحافل بـأنـواع وسـائـل التواصل أصــعــب. إذ إن اإلنــســا­ن املعاصر فـي ليله ونــهــاره وحـلـه وترحاله مــتــصــل بــالــعــ­الــم عــبــر املنصات التواصلية وال ينفك عن الحديث والتخاطب. إن لـلـصـمـت أهـمـيـة فــي منظومة القيم القرآنية، فالقرآن يعتبره من اآليات اإللهية حيث نجد في اآلية الــعــاشـ­ـرة مــن ســـورة مــريــم إشارة أخــرى إلــى أهمية السكوت، وذاك حــن نـقـرأ قـولـه تـعـالـى في معرض حديثه عن زكريا عـلـيـه الـــســـا­لم: «قــــال رب اجعل لي آيــة، قـال آيتك أال تــكــلــم الــــنـــ­ـاس ثالث ليا ٍل سويًا». لـــــــلـ­ــــــســـ­ــــكـــــ­ــوت دور أســـاســـ­ي فـــي توسيع مــــدارك التفكير وتـــــخــ­ـــصـــــي­ـــــبــــ­ـه، وذلـــــــ­ــــــــــ­ــــــــــ­ــــك ألن الــــــــ­ــــــتـــ­ــــــــــ­ـحــــــــ­ــــــدث بكثرة تستنزف الـطـاقـة الذهنية والــتــرك­ــيــز. إنــنــا فــي حــاجــة ماسة إلــى أن نفلت لساعات مـن قبضة العالم الحديث املـلـيء بالصخب والـــــــ­ضـــــــوض­ـــــــاء، لـــنـــجـ­ــلـــس على ضــفــاف مــحــيــط الـــكـــو­ن ونستمع لحديثه ونصغي لعزف الطبيعة الهادئ حتى نجد ما تفقده دائمًا أنفسنا. إن الـــتـــح­ـــرر مــــن ضــجــيــج القلب والــــــد­مــــــاغ ومــــــن غــــوغـــ­ـاء الناس وإســكــات مــا يتعالى مــن أصوات مــزعــجــ­ة بــحــيــث ال يـــطـــرق سمع الــــفـــ­ـؤاد طــنــن الـــبـــا­طـــن وال أزيز الخارج، مرتبة سلوكية مهمة من مراتب العارفن. ال أريــــــد هــنــا أن أضـــيـــف عنصر الــــســـ­ـكــــوت إلــــــى أحـــــكــ­ـــام الصيام الفقهية، وإنــمــا أردت الــقــول بأن للسكوت عالقة وطيدة بالصيام ويمكن أن نلحظ آثارها في سنة االعـتـكـا­ف الـتـي تترافق دومــًا مع الصوم وتالزمه.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia