Okaz

األرض لنا وللطيور السماء!!

-

هناك أمكنة تعيش في الـذاكـرة مختبئة ولكنها مرشحة دومــًا للظهور في أي لحظة وكــأن الـزمـان لم يمر عليها، وهكذا تستدعيك دومــًا ألنها حية دون أن تــدري، املكان األول املتلبس بالطفولة يبقى في عقر القلب يصاحبنا فـي كـل األمكنة التي نـزورهـا وال يبرحنا وإن وجـدنـا مـا هو أجمل منه وال نفوق أو نتخلص أو نشفى من حنينه وذكـراه، لذلك يظل هذا املكان يقبع في قعر الرائية، أكتب اليوم عن (شعب عامر) ملاذا (شعب عامر) ألنني أحببته وأحب من يحبه وأحب كل من ولد وعاش أو مر به، ولـدت وترعرعت وحزنت وفرحت وحلمت في (شعب عامر) كان الزقاق ملعبًا والرصيف أريكة والحائط مسندًا، حي كان سكانه يعطرون مياه الشرب بماء الزهر، أحببت (مكة) من حبي له وأحببته من حبي (ملكة)، عندما تنثال الذاكرة تأخذ أشكاال.. ثالث صور وأحداث واضحة وجلية وصـور وأحــداث ملتبسة تحتاج إلى تدقيق وفـرز لالقتراب من الحقيقة وصـــور وأحــــداث تستدعيها الــذاكــر­ة حـسـب مــا تمنى اإلنــســا­ن أن تكون وليس كما كانت وبالتالي تعكس أماني اإلنسان وأحالمه وقت وقوع تلك األحداث وال تخلو ذاكرتي املنثالة من كل هذه األشكال، في ذلك الحي كانت األرض لنا وللطيور السماء، ومـع كل الشقاء املالي القاسي كنا نستمع الى (أم كلثوم) كلما أذاعـت صوت العرب لها حفلة أذكـر يوم غنت (أنت عمري) كنت مع أشقائي (أبناء عم إبراهيم سروجي) رحمه الله؛ نشرب الشاهي ونستمع بحسرة املـراهـقـ­ني، وكلما قالت (أنــت عـمـري) نتفاعل ونطلق اآلهات الزرقاء ونستذكر حبيباتنا كما نتخيلهن، واستمعنا إلى عبدالحليم بــدون أي دمعة حـزن فحياتنا كانت بسيطة كماء الينبوع، وقرأنا أرسني لوبني وشارلوك هوملز ومحمد عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي ونجيب محفوظ واملنفلوطي، وأكلنا العدس بأشكاله املختلفة فــي بـيـت (عــبــدالـ­ـقــادر مـغـربـي) فـتـة بــالــعــ­دس، ملوخية نـاشـفـة بالعدس ومــازال العدس صديقي الحميم عكس أوالدي!! كان الحي عائلة واحدة والجار هو العم أو الخال أو ستي أوجــدي أو أخـي أو أختي، كـان الحي مـجـتـمـعـ­ا مـتـضـامـن­ـا مـتـحـابـب­ـا يــتــشــا­رك فــي الــفــرح والـــحـــ­زن واألحـــــ­الم، فاألفراح واألحزان كان الجميع يتعاون للقيام بها كبيت واحد وضحكة واحـدة، كانت ثقافة التعاون والحب سائدة في الحي، وكان كامل الحي يتحرك برغبات سكانه املتنوعة واملكملة لبعضها البعض وتكاملت كلتا الثقافة الروحية واملادية وساهمت هذه وتلك في التقدم اإلنساني للحي، تزوجت أخواتي األربع وتم كامل حفل الزفاف في منازل (العمران) أسرة قصيمية وقورة محترمة رفيعة املستوى كذهب السنابل ومساكب الورد لو اتسع املجال لكتبت عن هـذه األســرة مسلسال رمضانيا كامال وليس فقط إشـــارة عــابــرة، مـا إن كــان يصل خبر عقد قــران إحــدى أخــواتــي إلى سمع عم عبدالله العمران أو عبدالعزيز أو عم إبراهيم حتى يتصدوا إلى االلتزام بكامل مراسيم الفرح، لم يكونوا جيرانًا لنا بل عائلة ممتدة، ومن هذا الحي انطلق كثيرون كالشهب في سماء النجاح، كانت معظم منازل الحي شيدت على يـد املعلم (عيد قــزاز) شيدت مـن مــواد بسيطة صماء املعالم تنفتح فيها أجـزاء للنور (املنور) وكـأن الحجر يبتهل إلى ضوء السماء من فتحات تتناغم في ما بينها كسلم موسيقي ينظم إيقاعات األدعــيــ­ة مــع االبــتــه­ــاالت، كـانـت مـبـانـي بسيطة فــي الـخـطـوط والحجوم والواقع الطقوسي الديني الذي يصل العابد باملعبود عبر االستقامة في التعبير بأبسط الوسائل والطرق، كانت رائحة الخشب املعتق تنطلق من بني حجارة البيوت، واألبواب يطفح سطحها باملسامير الصدئة مشكلة رسومًا تبدو كالرموز والتمائم الحجازية، ومرت األيام كحصان مجنون يجري في برية ال أفق لها، اختفى الحي في هدميات عشوائية واختفت معه أماكن الذكريات التي كنا نـزورهـا من حني آلخـر كحاج يبحث عن يقني بأن ما حدث له من قبل كان حقيقة وهو يحاول أن يقترب من تلك اللحظات الرائعة فإذا بها تنفر مفزوعة كوعل شيطاني، من املحزن فعال أن تتأقلم، أن تعتاد الـوضـع، أن تكف عن التفكير والتذكر، أن تكف عن محاوله اإلمساك بتالليب الذكريات، أن تنسى وتستكني للنسيان، تنسى فيصبح كل شـيء بــدون طعم، ليس ألنـك حزين ولكن ألن كل شـيء فعال ليس له طعم!!.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia