تركيا القلقة
مـثـلـت الـتـجـربـة الـتـركـيـة خـــالل الـعـقـد األول من القرن الـحـادي والعشرين نموذجا إنمائيا لدى دول كثيرة فـي العالم الـثـالـث، باعتبار التنمية االقتصادية والتنمية البشرية التي وضعتها ضمن مجموعة العشرين للدول املتقدمة اقتصاديا على مستوى العالم، ولكن في السنوات القليلة املاضية تراجع هذا النموذج وتداعى على أكـثـر مــن صعيد، والــزائــر لتركيا فــي هــذه األيـــام يـالحـظ بدون عناء مشاهد كاشفة تكاد تختصر كثيرا مما وصلت إليه هذه التجربة. الــلــيــرة الـتـركـيـة تـمـر بــأســوأ أوقــاتــهــا مـنـذ الــعــام 2002 تاريخ وصـول حـزب العدالة والتنمية ورجـب طيب أردوغــان إلـى سدة الحكم، فقد انخفضت قيمتها خالل أسابيع قليلة إلى ما يزيد على 18 باملئة، وبـالـرغـم مـن الـدعـايـة الـتـي تمارسها الحكومة بأن هذا االنخفاض نتيجة مؤامرة وطبعا هذه املؤامرة مجهلة، ولكن في حقيقة األمر هذا االنخفاض عرض ملرض أعمق بكثير مما تدعيه الحكومة. فخالل الـسـنـوات املاضية جــرت تحوالت سياسية وجيوسياسية أثرت بقوة على االقتصاد التركي، منها أن الحدود الجنوبية مع سوريا قد أغلقت مما أدى إلى صعوبة الوصول إلى األسواق الخليجية، وهي أسواق لطاملا ساهمت في النهضة التركية، أضف إلى ذلك أن العالقات مع الدول الخليجية تعتريها الكثير مـن الشوائب وهــي ليست فـي أحسن أحوالها، بـاإلضـافـة إلــى ذلــك فــإن رأس املــال جـبـان وهــو يبحث عـن بيئة مـسـتـقـرة وآمــنــة، وقـــد مـثـلـت تـركـيـا هـــذه الـبـيـئـة طـــوال سنوات، ولكن املحاولة االنقالبية الفاشلة التي حدثت في تموز/يوليو 2016 أثـبـتـت أن هــذا االســتــقــرار هــش، وأن الــصــورة املرسومة سابقا خادعة، وبالرغم من مرور سنتني على تلك املحاولة إال أن الحكومة التركية لم تنجح في استعادة تلك الصورة. بعض املحللني يذهبون مذهبا مختلفا، حيث يـوافـقـون على وجود األزمـة االقتصادية لأسباب سالفة الذكر، ولكنهم يرون أن جــزءا من هـذه األزمــة يعود إلـى أردوغــان نفسه، ألنـه بحسب وجهة نظرهم مستفيد من هذه األزمة عبر خلق حالة من القلق، وخصوصا ربط هذه األزمة باملؤامرة الخارجية، لذلك فإن شرائح منهم سوف تذهب للتصويت للسيد أردوغان وحزبه باعتباره ضمانة لالستقرار االقتصادي ومواجهة املؤامرة! ودليلهم على ذلــك أن الحكومة مـا زالــت تحجم عـن التدخل بــإجــراءات لوقف نزيف الليرة كخفض الفائدة مثال. فــي تـركـيـا الـجـمـيـع ينتظر االنــتــخــابــات الـرئـاسـيـة والبرملانية املبكرة التي دعـا إليها الرئيس التركي، وفـي هـذه االنتخابات يتحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية، ومن أجــل الظفر بـهـذه االنـتـخـابـات فقد أبـعـد أردوغـــان كـل منافسيه فـي حــزب الـعـدالـة، فغاب عـن الـحـزب حاليا أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان والرئيس السابق عبد الله غـول. ومن حـاول أن يستعيد دوره وأن يفكر مجرد التفكير في مواجهة أردوغان في االنتخابات فإنه يصبح تحت مقصلة اإلعــالم التابع للحزب، ولــعــل تـجـربـة عـبـد الــلــه غـــول أكــبــر دلــيــل، فـقـد تــعــرض لخطاب التخوين واإلســــاءة على مــدى أسابيع عندما فكر فـي الترشح لالنتخابات الرئاسية، بما ال يتناسب مع مكانة الرجل وتاريخه، فهو كان من أوفى الشخصيات في الحزب ألردوغان وتنازل عن رئاسة الحكومة في بداية وصـول العدالة والتنمية إلـى الحكم لصالح أردوغـــان. كـل ذنــب الـرجـل انتقاداته لبعض السياسات التي انتهجها الرئيس التركي. وأثمرت تلك الضغوط بأن أعلن أنـــه لــن يـتـرشـح فــي االنــتــخــابــات الــقــادمــة. واألمــــر ينطبق على داود أوغلو وغيرهم الذين تم تهميشهم وإبعادهم عن الحياة السياسية. التحالف بـني حــزب الحركة القومية وحــزب العدالة والتنمية بدا لوهلة أن حزب العدالة سوف يلتهم الحزب الصغير نسبيا، ولــكــن وانــســجــامــا مــع خــطــاب الـتـخـويـن واملـــؤامـــرة الــطــاغــي في حزب العدالة، أضيف إليه الخطاب الشعبوي الذي ميز الحركة القومية، فأصبح الخطاب السياسي لحزب العدالة والحكومة قريبا من األحــزاب اليمينية املتطرفة في الـغـرب، إذا استثنينا مسألة اإلسالموفوبيا والعداء للمهاجرين. لعل التحول األهم هو تحول التجربة التركية من تجربة العدالة والتنمية إلى تجربة أردوغان، ويمكن أن نصف وبدون عناء نحت في اللغة، تركيا اآلن بأنها تركيا أردوغــان. فقد استطاع الرجل أن يمسك خـيـوط اللعبة السياسية واالقــتــصــاديــة والعسكرية واألمنية والقضائية بيديه. وكانت املحاولة االنقالبية الفاشلة هــي أداتـــه املثلى إلبــعــاد كــل الـخـصـوم أو حتى مــن يشك بأنهم غير موالني، فتم تطهير املؤسسة العسكرية وكذا األمنية. وتحت حجة القضاء على الكيان املوازي، أبعد عشرات املوظفني الكبار من مفاصل أساسية في الدولة، واستبدلهم بآخرين أكثر والء. شــــوارع إســطــنــبــول تــحــولــت إلـــى مــعــرض لــصــور أردوغــــــان من خالل منظر يذكرنا بسوريا األسد أو ليبيا القذافي، مع اإلقرار بخصوصية التجربة التركية. وفـي هـذا اإلطــار تبدو التقارير الحقوقية الغربية التي تشير إلـى تـراجـع الحريات العامة في تركيا والبيئة غير الصحية للمعارضة السياسية، يبدو أن لها ما يبررها. مياه كثيرة جرت تحت الجسر خالل السنوات املاضية في تركيا، فتغيرت الكثير من املعطيات، فحجمت كثيرا من تلك التجربة الواعدة التي لطاملا افتخر بها األتراك ومريدي السيد أرغان من العرب. ولكن الحقيقة أن تركيا تمر بمرحلة تراجع تطال الكثير مــن عـنـاصـر تـلـك الـتـجـربـة. تـركـيـا أردوغــــان افـتـقـدت إلــى الكثير مــن الـثـقـة الــتــي كــانــت تـمـيـزهـا، وتــمــر بـمـرحـلـة تــبــدو فيها قلقة ومتوجسة.