قوموا لسيدكم الوطن
الــســعــوديــون هــم أشــد الــنــاس عـبـر التاريخ تمسكًا وحبًا واحترامًا وتعظيمًا لوطنهم وصـــبـــرًا عــلــى ألوائـــــــه بــصــحــرائــه وجباله وسهوله وشواطئه، ولطاملا خاضت القبائل في الجزيرة العربية مع الغزاة من الداخل أو الخارج حروبًا غير متكافئة ألجــل الـدفـاع عـن األرض ورايتها ورمــوزهــا حتى يتحول الوطن في مخيلتهم إلى عرض حرائر تساق دونه املنايا! وفي الحاضر ها هم اآلن يغرسون راية الوطن ويسقونها مـــن دمــائــهــم فـــي أقـــصـــى أقـــصـــى جـــبـــال الـــوطـــن وحـــــدوده الجنوبية في مشاهد نفخر ونفاخر بها كسعوديني. ولكن الذي طرأ على حياة السعوديني في غفلة من الزمن من هجمة فكرية وتيارات تلبست بالدين كادت أن تضيع وطنًا سلمه األجداد لألحفاد شامخًا عزيزًا للدرجة التي تحولت كلمة وطن ووطنية وعلم وسام ملكي ونشيد وطني.. الخ إلى مادة للتندر والسخرية في مدارس وجامعات اململكة، ومــع األســف مـن قبل أسـاتـذة حـاولـوا تـذويـب فكرة الوطن وأنه ال وطن في اإلسام، كما أن الوطنية والدولة املستقلة ال حاكمية وال طاعة لها وهي مجرد طواغيت يمكننا فقط التعامل معها واستغالها واالستفادة منها دون تصديقها أو الوالء واالحترام لها! لقد سمعناهم بآذاننا ورأيناهم كيف كانوا يسخرون من الوقوف لتحية الوطن والعلم، بل إن بعض أكثرهم أدبًا كان يتعمد أال يأتي لاحتفاالت الرسمية إال بعد أداء السام امللكي، كان ذلك ماحظًا ومشاهدًا من الجميع وعلى مرأى من املسؤولني! ولوال أن تنبهت الدولة لهذا الفكر الخطير ثــم بـقـيـة مــن دمـــاء حـــارة مــازالــت لـظـاهـا تــفــور فــي عروق السعوديني ملا رأى هذا الفكر الخبيث في الرياض إال مجرد شارع يمتد من نواكشوط وصوال إلى كهوف تورا بورا! ومعهم فئة أخـرى إذا أحسنا الظن فيهم فئة تابعة تقلد بباهة وتـــردد وتفعل دون وعــي منها بخطورة مـا تأمر به تلك األدبيات والنظريات ال تمنعك من أخذ أي مكسب من الوطن في الوقت الذي تحثك على عدم تقديم أي شيء له تصغيرًا وتحقيرًا وصوال إلى تذويب االحترام والوالء والتعظيم لـلـدولـة الـوطـنـيـة ولــرمــوزهــا ورمـزيـاتـهـا حتى يسهل االنقضاض عليها في ساعة الصفر. تــظــل فــكــرة الـــوطـــن ورمــزيــتــه فــكــرة مــشــوشــة عــنــد بعض جماعات اإلسام السياسي وغيرهم وتعاني وفق نظريات وأدبيات وفتاوى متقاطعة من تشوهات بنيوية وهيكلية في صميم تكوينها فالوطن دولة وأرضـًا وحـدودًا وقائدًا وراية تظل بالنسبة للبعض رموزا مبهمة ال مبادئ راسخة حولها بل متغيرات جارية يمكن تفسيرها وشرحها حسب املصالح والحالة واالتجاه..! وبالتالي فاملنطلقات الفكرية لهؤالء التنسجم أصــا مع الدولة أو الوطن ذاته بشكل أعم وال مع رمزياته وحدوده وقــيــادتــه، وهــــذا مــا ســبــب مــنــذ عــقــود إشــكــالــيــة كــبــرى في تـعـاطـي الـفـكـر الـديـنـي وأيــضــًا حــركــات اإلســـام السياسي املساملة أو العنيفة مع مبادئ الـدولـة الوطنية وحدودها وجيشها وعلمها وقيادتها، فهذا سيد قطب أحـد أقطاب جماعة اإلخـــوان الــذي تـربـى على مقوالته جيل كبير من املتعلمني في السعودية وغيرها يجعل الوطن والوطنية كصنم يعبد مــن دون الـلـه ومـنـاقـض للعقيدة واإلسام، فيقول: «ال رابطة سوى العقيدة وال قبول لرابطة الجنس واألرض والــلــون والــوطــن واملــصــالــح األرضــيــة والحدود اإلقليمية إن هي إال أصنام تعبد من دون الله»، وفي ذات املوقف يقول مرشد جماعة األخوان في مصر مهدي عاكف عندما سئل عن الوطن والوطنية: «طز في مصر»! وحتى السلفية الدينية في السعودية كـان الفهم القاصر للبعض في ترجمة مفهوم الوطن والوطنية يسبب بعض اإلحـراجـات للدولة أو للسلفية ذاتها، وإن كان ظهر هناك مـراحـل متقدمة للسلفية فـي فهم مـبـادئ الـدولـة الوطنية الـواحـدة على العموم، إال أنها تخفق دائما في استبطان الرمزية املعنوية للوطن والوطنية ورمـوزهـا وتقع دائمًا في مطبات وفتاوى تجاوزها الزمن وعفا عليها الدهر. الـرمـزيـة الـتـي تظهر االحــتــرام واإلجـــال واإلكــبــار جعلت الــرســول صـلـى الـلـه عليه وسـلـم يـــودع وطـنـه مـكـة املكرمة بكل حب وأسـى على فراقها فيقول: «والله إنك أحب بقاع األرض إلى قلبي ولوال أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت»، والـرمـزيـة جعلته أيـضـًا عليه الـصـاة والــســام يطلب من األنصار عندما أقبل سعد بن معاذ عليهم ليقول: «قوموا لسيدكم». وفــي الـخـتـام مـن يستنكف فـي السلم أن يقف على قدميه وقوف إجال واحترام وإكبار للوطن ورموزه راية ونشيدًا وقائدًا فلن يتحرك له في ساعة الضيق والعسر والحرب والشدة لسان أو بنان!