Okaz

«حكومة القساوسة» تؤكد: غاريبالدي روائّي فاشل

- معاوية عبدالمجيد

في مثل هذا اليوم من عام ،1882 توفي الجنرال اإليطالي جوزيبي ماريا غاريبالدي، عن عمر يناهز 75 عاما، قضاها سعيا لبلوغ املجد الشخصي والوطني. وإن كانت إيطاليا ال تخلو مـن مدينة أو بلدة إال وكـرمـت أرقى ساحاتها وأبهى شوارعها باسمه وتمثال له، فذلك ألنه صاحب الـفـضـل األكــبــر فــي تـوحـيـد شـبـه الــجــزيـ­ـرة اإليــطــا­لــيــة تـحـت راية واحـدة، وتكوين هويتها القومية، وإلحاقها ركب األمم العظمى التي تبنت مفهوم الحداثة املدنية. غــاريــبـ­ـالــدي أحــــد نــجــوم عــصــر الــيــقــ­ظــة، الــــذي حــــان بــعــد قرون مـن تسلط الكنيسة على خـيـرات الــبــالد. ال تخفي مـالمـح وجهه الكاريزمية شدة بأسه، ورباطة جأشه، وقوة عزيمته وإصراره. قاد جيشا مكونا من ألـف متطوع فقط، فاستطاع أن يحرر به كامل التراب اإليطالي تقريبا، ويخضعه لحكم امللك فيتوريو إمانويلي عام .1861 قبطان ال يشق له غبار، تشهد البحار على مغامراته املهولة، من إسطنبول شرقا وحتى ريو دي جانيرو ما وراء املحيط غربا. لكن ذلك لم يمنعه من دخول عالم الثقافة أيضا: كتب مقاالت سياسية، وارتــــاد الـصـالـون­ـات الـفـنـيـة، ودون املـــذكــ­ـرات، وصـــادق الشعراء، ورافــقــه األدبـــاء – ألكسندر دومـــا – ولــم يـشـف غليله إال بتأليف الروايات دفعة واحدة. فهل كان أهال لهذه التجربة؟ لـن نضيع وقتنا بـالـوقـوف عند جميع أعماله األدبــيــ­ة، ألن أهم رواية كتبها منيت بالفشل، فما بالكم باألخريات! لكننا سنتناول هذه الرواية تحديدا لنضيء حولها. «حــكــومــ­ة الــقــســ­اوســة»، روايــــة مـوجـهـة ضــد اإلكــلــي­ــروس، تفضح ممارسات املؤسسة الدينية، وفسادها واستبدادها وانحاللها، إذ تعتمد البورنوقرا­طية وسيلة لتجنيد الـغـاويـا­ت فـي املكائد الـسـيـاسـ­يـة، مــا يـسـمـح لــهــن بـتـسـلـق الـسـلـطـة واســتــخـ­ـدام النفوذ لغايات ال تصب في مصلحة الشعب املقهور. كليليا إذن، بطلة الـروايـة، فتاة من رومـا، ورمـز للشعب مهضوم الحقوق، تقع ضحية البتزاز الكاردينال املفسد بروكوبيو. ينقذها شاب من براثن ذلك الشرير، ويلتقيا بجوليا الفتاة البريطانية، التي جاءت إلى روما لدراسة الفنون، وخطيبها الشاب الوطني. ثــم يلوذ األربـعـة بـالـفـرار إلــى جـزيـرة نائية، يعيش فيها الشيخ الزاهد، عاشق الوطن، فيقنعهم األخير بالعودة للنضال من أجل كرامة الوطن وعزته. وبالفعل يسقط البطالن فداء لتلك القضية الـسـامـيـ­ة، فيما تـهـرب الـفـتـاتـ­ان إلــى بريطانيا، وهـمـا فخورتان بشهادة حبيبيهما، وتقسمان على عدم العودة إلى روما األبية ما لم تتحرر من بطش حكومة القساوسة. كــمــا تـــــرون، يـكـشـف مـلـخـص الـــروايـ­ــة ســـذاجـــ­ة الــفــكــ­رة، ورخــــاوة بنيانها، وبساطة طرحها. لم يتعب غاريبالدي نفسه في اختيار اسم رامز للبطلة، فمنحها اسم ابنته األولى، إلدراج سيرته الذاتية في تاريخ هذا الشعب املظلوم. كما لم ير أي داع لتلغيز السياسة أدبـيـا، فجوليا البريطانية هي إشــارة واضحة للنموذج امللكي الدستوري البريطاني، الذي سعى الوطنيون الطليان إلى تقليده، مـتـجـاوزي­ـن الــنــمــ­وذج الـفـرنـسـ­ي الـــذي تـعـرض النكسارات كبرى، ناهيك بأن باريس كانت حليفا لروما البابوية. أما ذلك الشيخ الوطني املنعزل، فهو غاريبالدي نفسه الذي عاش آخر حياته في جزيرة كابريرا الصغيرة، هــنــاك حـيـث الـتـفـت إلـــى كـتـابـة الـــروايـ­ــات واملذكرات، واملــنــا­داة بالرفق بالحيوان، ومـسـانـدة املستضعفن التواقن إلى الحرية أينما كانوا، وتذوق التبغ. الــالفــت فــي األمـــر هــو سـبـب الـكـتـابـ­ة وتـوقـيـتـ­هـا، كان غاريبالدي يمر بظروف اقتصادية حرجة، كان في حاجة إلى املال، فارتأى أن يؤلف كتابا لعله يــدر أربــاحــا طـائـلـة. تصوروا أن صاحب البطوالت األسطورية يميل إلى استخدام شهرته الــعــامل­ــيــة فـــي تـــرويـــ­ج عمل أدبــي مــن بـنـات أفــكــاره. ال ألنــه أراد اسـتـبـاق اآلخــريــ­ن فــي تأريخ الـلـحـظـة الـعـظـمـى، بــقــدر مــا أراد إعــمــال شغفه األدبــــي فــي كسب النقود للضرورة. أما التوقيت فكان خالل العامن 1866 ،1867و أي بعد الوحدة اإليطالية (اللحظة العظمى) بسنوات قليلة. أرسل املخطوط لصديقته املثقفة األملانية البريطانية، ماري إسبرانس فون شفارتس، طالبا نصيحتها، إذ تؤكد كتب التاريخ أنه أحبها وعرض عليها الزواج فرفضت. لم تبعث الصديقة رسالة تنصح فيها غـاريـبـال­ـدي بـعـدم الـتـهـور فـي نشر روايـــة هزيلة كـهـذه، بل قطعت آالف األمـيـال كي تبلغه رأيها السلبي ا، وتقنعه بتجنب هذه السكة، وتطلعه على جديد ما وصلت إليه في الدفاع عن حقوق الحيوان. يعترف الجنرال بأنه ال يرى في نفسه أديبا عظيما، ويقرر تأجيل املسألة األدبية رغم إلحاح الحاجة املادية، ويعتنق الــغــذاء الـنـبـاتـ­ي. ثــم يـرسـل الــروايــ­ة إلــى دار الـنـشـر بعد سنتن، لتصدر عام !1870 تكفل اسم الرجل بانتشار الرواية، ما يكفي لسد احتياجاته املالية، لكنه لم يحفظه من النقد الـالذع الذي انتهجته الصحف األدبية والثقافية بحق العمل. جاءته االنتقادات حتى من بريطانيا، إذ استاءت بعض األوسـاط من االحتفاء الشعبّي واإلعالمّي بزيارة الـجـنـرال إلــى لــنــدن، ورأت فــي الــروايــ­ة مـزيـجـا مــن بـالهـة مفرطة وحماسة استعراضية، يجعل من غاريبالدي بطل رواية بجدارة، ال كاتبا لها. وبالفعل، ما مر عام ولم يصدر كتاب واحد على األقل، يسرد بطوالت الجنرال، وإيمانه العميق بقضيته، وانــغــمـ­ـاســه الــــخـــ­ـارج عـــن املــــألـ­ـــوف فـــي دهاليز السياسة وميادين القتال على حد سواء. حتى إن اندفاعه لم يعبأ بتلك االنتقادات، فألف بعد تلك الرواية ثالثا، مبرئا ذمته بما أورده في مقدمة طبعتها األولــى: «من الجانب التاريخي، أعتقد أني كنت أمينا في كشف تجاوزات القساوسة. أمــــا مــن الــجــانـ­ـب الــرومــن­ــســي، آمـــل أال أســبــب إزعــاجــا لـهـذا الجمهور الــذي عـاصـر روائــيــن عظماء، مثل غويراتسي، مانتسوني، وفيكتور هوغو!».

 ??  ?? معاوية عبدالمجيد
معاوية عبدالمجيد

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia