اللوبي اإليراني.. في مواجهة إدارة ترمب
تشهد الساحة السياسية على مستوى العالم، وفي منطقة الشرق األوسط بشكل خـــاص، سـبـاقـًا محمومًا تمتد مـسـافـاتـه مــا بــن املــشــرق واملغرب، وال تتوقف أحداثه لدرجة تحير املتابع ملا يجري في العالقات الدولية، خصوصا بن دول الغرب وتجعله يتساءل: كيف لقرار انسحاب الرئيس األمريكي من االتفاق النووي املبرم بن مجموعة )1+5( وإيران قد أحدث هــذه الصدمة أو بـاألحـرى هــذا الــزلــزال وتوابعه التي لـم تتوقف، فأنتج هــذا االخــتـالف الــواضــح فـي التصريحات األوروبــيــة املناهضة للموقف األمريكي. فما الــذي يدفع دوال غربية عظمى كأملانيا وبريطانيا وفرنسا ملرحلة تصعيد املواجهة مع أمريكا إلرضاء إيـران.! وهم الذين يعتمدون عليها كليًا للحماية واالنـتـفـاع مـن قوتها االقـتـصـاديـة والعسكرية والثقافية واإلعالمية؟ هل هي خطط املصالح االقتصادية بن تلك الــدول وإيران؟ أم ملـــآرب أخـــرى تــخــدم األطــمــاع األوروبـــيـــة بــاالتــفــاق مع إيران في اقتسام الغنائم، وجني األرباح في منطقة تزخر بالثروات الطبيعية. األرجــــــح بــالــنــســبــة لــــي، أن االتـــفـــاق الـــنـــووي هـــو واجهة التـــفـــاقـــات ســـريـــة ســعــت إلــيــهــا إيـــــــران إلشــــبــــاع الشهية االقــتــصــاديــة لــأوروبــيــن ويــكــون بـبـسـاطـة وفــقــًا لآلتي: تــتــوقــف إيــــران عــن تـخـصـيـب الــيــورانــيــوم ملـــدة محدودة وحــتــى عـــام )2025( وتــلــتــزم بـبـعـض الـــشـــروط لترضي بعض األطــراف، وباملقابل ال يعارض الغرب أي خطوات تتخذها إيران للتوسع والتمدد آيدلوجيًا وعسكريًا (من خالل امليليشيات التي تتبعها) في دول الجوار العربية، وبالتالي يكون للدول املوقعة االمتياز األول في استغالل ثــروات إيــران ومـا جـاورهـا من دول، وهــذا بالطبع اتفاق سري بن إيران ودول االتحاد األوروبـي الذي ال يهمه إن سيطرت إيران على دول املنطقة طاملا ستنعم هي بخيرات وثـــــــروات تــلــك الــــــدول بــضــمــانــة إيـــرانـــيـــة.. هــــذا تحليلي الــخــاص، وإال بـمـاذا نفسر هــذه االسـتـمـاتـة الـتـي تبديها الدول الغربية للحفاظ على االتفاق النووي؟! وهي تعلم يقينًا أن مشكلة إيران مع العالم ال تقف عند القنبلة النووية.. بل تتعداها لتشمل كل األعمال التي تزعزع االستقرار.. وتبث الفرقة والطائفية في كل املنطقة بحجة تصدير الثورة. أمــا بالنسبة لـــإدارة األمريكية الحالية فـبـات األمــر مكشوفًا، وال يمكن لشخص فــي ذكـــاء الـرئـيـس دونــالــد تــرمــب أن يقتنع بـاتـفـاقـيـة تشوبها الكثير من العيوب واملآخذ، وهو يرى كيف أن استغلت االتفاقية وأخذت راحتها في إيذاء جيرانها، خصوصا دول الخليج العربي، ولم تتوقف عن تخصيب اليورانيوم الثقيل، وأيضًا ومن التوسع في برامجها العسكرية خاصة املتعلقة بإنتاج الصواريخ.. إضافة إلى تواصل إذكاء الفنت بدعم املـيـلـيـشـيـات اإلرهــابــيــة الــتــي تــهــدم كــيــانــات الــــدول وتــمــزق مجتمعاتها وتحيلها إلى فرق طائفية. إن هــذا التحليل املبسط ملـا وراء االتـفـاق الــنــووي، هو استنتاج واقعي ملا سعت إليه إيران بدهاء للتأثير في الغرب منذ عقود؛ بأموالها الطائلة التي تصرف على الجهات والجماعات واألفراد الذين يخدمون سياساتها، خصوصا في وسائل اإلعالم الغربية وكذلك ما يصرف مــن أمــوالــهــا عــلــى املـيـلـيـشـيـات الـعـسـكـريـة الــتــي ترفع شعاراتها، وتأتمر بأوامرها لتنفيذ املهام اإلرهابية فــي مــا يسمى بــحــروب الــوكــالــة.. تـمـامـًا مـثـل مــا فعلت في لبنان وسورية والعراق واليمن.. وفي بعض الدول األفــريــقــيــة.. وآخــرهــا مــا كشفت عـنـه اململكة املغربية من دعـم وتـواصـل مشبوه بن جبهة «البوليساريو» املرفوضة دوليًا والذي أسفر عن قطع العالقات مع إيران منعًا لتكرار ما فعلته مع «الحوثي» في اليمن، فتزويد «البوليساريو» باألسلحة ثم الصواريخ والخبراء لتشغيلها.. لن تهدد املغرب فقط وإنما لتهديد الـدول الغربية عبر بوابة املحيط األطلسي.. فالصواريخ البالستية اإليرانية ستجمع هناك ثم تنصب.. وعندها تقول إيــران للغرب: نحن على أبوابكم اتفقوا معنا وإال ستطالكم صواريخنا وقنبلتنا الـنـوويـة.. ولكن القيادة املغربية تيقظت لهذا األمــر وكشفت فـي الـوقـت املناسب املــخــطــط الــــذي كـــان ســيــحــول الــصــحــراء املــغــربــيــة لبؤرة إرهــــــاب، ولــكــن لــأســف أن الـــغـــرب لـــم يــقــدر هـــذه الوقفة الـحـازمـة مـن املـغـرب، وذلــك بسبب تأثير اإلعــالم الغربي املوالي إليران. ولذلك نكرر القول أن ما يحدث في الساحة الدولية اآلن يـدعـونـا حقيقة للتأمل فــي نـتـائـج مــا ستحدثه اليقظة األمــريــكــيــة ضــد الــخــنــوع الــغــربــي إليـــــران، وفـــي ظــنــي أن الحمالت التي واجهت «دونالد ترمب» قبل وبعد وصوله لسدة الحكم في البيت األبيض بسبب آرائــه من االتفاق النووي كان إليران اليد الطولى فيها، وذلك من خالل اللوبي في أمريكا.. وفــي هــذا الـجـانـب أشـيـر إلــى مـقـال نشر فـي صحيفة الـبـيـان بـتـاريـخ 26 سبتمبر ،2017 للكاتب اإلماراتي األستاذ عوض الدرمكي، تحت عنوان «اللوبي اإليراني في أمريكا كيف يعمل؟ ومن أين يستمد قوته؟» لنتبن كيف استطاعت حكومة إيران منذ عام م1973 تأسيس لوبي قوي ومؤثر فــي الــواليــات املـتـحـدة األمـريـكـيـة، ألـقـى بظالله على اإلدارات األمريكية الـسـابـقـة.. إذ يــقــول: أسـسـت إيـــران أول لـوبـي لـهـا بـاسـم «بـيـنـاد بهلوي» عـام م1973 في الشارع الخامس بنيويورك، وبعد سقوط الشاه وقدوم املاللي، تغير االسم إلى «بيناد مستضعفان»، ثم «بيناد علوي»، ويتبع مباشرة ملحمد جـواد ظريف وزيـر الخارجية اإليـرانـي، والسفير السابق فــي واشــنــطــن، كـمـا تــأســس لــوبــي املـنـظـمـة األمريكية اإليــرانــيــة، ومـــن نـشـطـائـه الــبــروفــيــســور شــيــانــغ أمير أحـــمـــدي بــجــامــعــة روتـــجـــرز فـــي نــيــوجــيــرســي، إال أن رأس الـحـربـة الـرئـيـس هـو املجلس الـوطـنـي اإليراني األمريكي ،NIAC والذي يترأسه الكاتب تريتا بارسي، تلميذ املفكر األمريكي فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، والذي قام بدور هائل في قلب الطاولة في واشنطن، ليصبح الحليف عدوًا، والعدو حليفًا، عـلـى مـسـرح الــشــرق األوســــط، ويـضـم املجلس اثـنـن مـن الدبلوماسين األمـريـكـيـن الـسـابـقـن؛ هما توماس بيكرينغ السفير السابق في إسرائيل، وجون يـمـبـرت الـــذي احـتـجـزه نـظـام الخميني كرهينة عام .م1979 نــجــح املــجــلــس فــي تـنـظـيـم اإليــرانــيــن املــوجــوديــن على الــتــراب األمـريـكـي لخلق قــوة مــؤثــرة نـاعـمـة، إذ يتجاوز عــــدد اإليـــرانـــيـــن واألمــريــكــيـــن مـــن أصـــــول إيـــرانـــيـــة في الواليات املتحدة مئات اآلالف، ويملكون قوة مالية تقدر بـــ(004) مليار دوالر، وقـامـوا بتأسيس أكثر من )320( شركة كبيرة، ومساهمن في أكثر من )450( شركة نافذة أخـرى، بينما تشير اإلحصاءات األمريكية الرسمية إلى أنـــه يــوجــد مـمـن هــم مــن أصـــول إيــرانــيــة )7000( طبيب )1300(و متخصص فــي الـعـلـوم البحثية والتطبيقية يعملون في املؤسسات األمريكية. لقد فهم اللوبي اإليراني تراتبية صنع القرار في أمريكا، وعــــرف كـيـفـيـة الــتــأثــيــر فــيــهــا، ووفـــقـــًا لــــذاك الــفــهــم وجه اإليرانين املقيمن لتخصصات بعينها تخدم األجندة الخفية له، وتساعده للتغلغل في مراكز النفوذ املختلفة، فاإلناث تم توجيههن للسيطرة على قطاعات التخطيط اإلســـتـــراتـــيـــجـــي والـــتـــســـويـــق والــــعــــالقــــات الـــعـــامـــة وأمن املعلومات واألرشيف والسكرتارية واالستشارات النفسية والتربوية، والشباب للتركيز على التقنية والعالقات الدولية ومقارنة األديـان، ورجال األعمال للدخول بقوة في شراكات في قطاعات األسلحة والطاقة واألدوية واالتصاالت واملواصالت، وشجع اللوبي اإليرانين على الدخول في عالقات زواج من أبناء العائالت األمريكية «الثرية» و«النافذة» لخدمة األجندة اإليرانية بطريقة أكثر قوة، ومن الداخل! نجح تريتا بارسي من خالل طرح اللوبي وكتابه لتصورات سياسية ودراســات استشرافية للشرق األوســـط، وبـاالنـتـقـاء النوعي لبعض األحـــداث، للخروج بنتائج تعميمية تؤيد النظرة السياسية اإليرانية للمنطقة، وبتنظيمه للعديد مـن الـلـقـاءات مـع املسؤولن األمـريـكـان وأعـضـاء الكونغرس والفعاليات التي تتم في الجامعات، ليس فقط في اختراق املؤسسات الرسمية ذات النفوذ، بل في اختراق «الوعي املجتمعي»، بتقديمه «العنصر الفارسي» كإنسان متحضر ذي فكر منفتح وقريب من العقلية الغربية، لم يتم فهمه بطريقة صحيحة سابقًا، بسبب تشويه الحليف الحالي ألمريكا لهم؛ وهم عرب الخليج، وتحديدًا السعودية، التي يركزون على نبذها تحت شعار طائفي مصطنع اسمه «الوهابية»، والتقت هنا الـصـورة النمطية التي رسخت من اللوبي الصهيوني ثم اإليراني، عن العربي بأنه شخص غادر مخادع بربري جاهل، ال تحركه إال الشهوات والغرائز! وفي لعبة اإلعـالم والتأطير هـذه، نجح بارسي أيضًا في تسويق أن حل األزمات السياسية في الشرق األوسط ال يكمن في حل القضية الفلسطينية فقط، بل يعتمد على إيجاد «أرضـيـة» توافق وثقة بن إيــران وإسرائيل، وأن أي حل لأزمة السورية، ال يمكن أن ينجح دون أن تكون إيـران على الطاولة كطرف رئيس، وسوق لوبي «ناياك» صورًا لقاسم سليماني قائد فـيـلـق الــقــدس بــالــحــرس الـــثـــوري، والــــذي يــرفــض بارسي اعـتـبـاره تنظيمًا إرهــابــيــًا، وهــو مـحـاط بجنود «أكراد»، في ذات الوقت الـذي مـأوا فيه الساحة بمقاالت عن قيام «حــزب الـلـه» اللبناني بتسليح «املسيحين»، لحمايتهم مــن «داعـــــش»، الــتــي يـــكـــررون أنــهــا «وهــابــيــة»، إللصاقها بالسعودية، حليفة أمريكا الحالية، ليقولوا للغرب: نحن شركاؤكم املوثوقون في محاربة اإلرهـاب، ونحن «حماة» األقليات املهددة في الشرق األوسط! وفـــي الــفــتــرة الــحــالــيــة، يــركــز بــارســي عـلـى تـمـريـر الرؤية اإليــرانــيــة للقضية الـســوريــة، لنسف بقايا الثقة الغربية بـعـرب الخليج، ويــكــرر كثيرًا تصوير التدخل الخليجي بــأنــه إســتــراتــيــجــيــة «ضــــرب عــصــفــوريــن بــحــجــر واحــــد»، من خـالل دعـم عـرب الخليج، والسعودية تحديدًا، لقوات املعارضة، والتي ستؤدي لنتيجتن، كما يقررها رئيس لـوبـي نــايــاك: األولـــى أن األصـولـيـن اإلرهـابـيـن سيؤذون النظام السوري، فهو يتفق مع املاللي بأن املجرم بشار هو املرجعية الرسمية، والنتيجة الثانية أن سورية ستكون بــــؤرة لــإرهــابــيــن، ومــكــانــًا لـلـتـخـلـص مــنــهــم بــعــيــدًا عن الداخل الخليجي، ووضعهم مباشرة أمـام إسرائيل واألقليات املسيحية في سورية ولبنان، وهكذا يخسر الجميع، ويكسب السعوديون والعرب! إن األفعى اإليرانية ليست موجودة في واشنطن فقط، بل أصبحت موضع ترحيب في بعض عواصم أوروبـا نتيجة إلغـراءات االستثمار في إيران، ويكفي أنها حورت الصراع إقليميًا من صراع عربي-فارسي، إلى صراع ضـد اإلرهـــاب امللصق بنا فقط، وبالنتيجة نقول إن مـا يـواجـه الرئيس األمريكي الحالي اليوم من حمالت شديدة ضد سياسته وقراراته األخيرة أمر مؤكد بسبب هذا اللوبي، وغيره من لوبيات في عواصم غربية أخرى.. وما خفي كان أعظم.!
* كاتب سعودي.. و«مؤلف كتاب اإلسالم في أمريكا الشمالية»