إنها همسة رجاء للمسة وفاء
تقاطر على أمـانـة جــدة العديد مـن األمــنــاء، منهم مــن وفـقـه الـلـه واســتــطــاع أن يضيف لـهـذه املدينة الــتــاريــخــيــة أبــــعــــادًا تــنــظــيــمــيــة وجــمــالــيــة أبــــرزت مفاتنها كمدينة حاملة تعيش على شاطئ البحر األحــمــر، وآخــــرون تـعـامـلـوا معها وكـأنـهـا أمـــاك خــاصــة تصرفوا فـي حدائقها وبــاعــوا واشــتــروا فـي أراضـيـهـا، وغـضـوا الـطـرف عن مخالفاتها، وجعلوا من شواطئها أماكًا خاصة، تعاملوا بقسوة مــع تـاريـخـهـا الـــذي هــو ثـقـافـة أمـــة وحــضــارة دولـــة وهــويــة شعب، لـم يــراعــوا طبيعتها الجغرافية كأكبر مدينة ساحلية تطل على البحر األحـمـر تحتاج إلــى عناية خاصة فـي طرقاتها وشوارعها وأرصفتها وبحرها وبحيرتها التاريخية التي اغتسل فيها سيدنا عثمان عند زيارته لجدة. حولوها باإلهمال إلى مستنقع آسن غير صالح للحياة ووصمة عار في جبينها الوضيء. باملزاج واالجتهاد حول بعضهم هذه املدينة الزاهية إلى فوضى عارمة، جعلوا من أحياء كانت راقية بنى أصحابها بيوتهم بمقاسات معينة وطوابق مدروسة وحـدائـق خـاصـة، فجعهم أحــد األمـنـاء فحولوها إلى أحــيــاء تــجــاريــة تــطــاول بـنـيـانـهـا وارتــفــعــت طوابقها فـــســـدت الــــهــــواء وحــجــبــت نــــور الــشــمــس واستباحت خصوصية ساكنيها فأصبحوا حبيسي بيوتهم حفظًا لعوراتهم، وكل ذلك باجتهاد شخصي منه، وأتى أمني آخر فهدم أرصفة جدة وبنى بدال منها أرصفة عالية ال تتوافق مع أي مواصفات عاقلة، وتفتق ذهن أمني آخــر عــن اخــتــراع يــحــارب بــه فــئــران جــدة وقوارضها، فــاســتــورد غــربــانــا وأطـلـقـهـا فــي سـمـائـهـا، تصالحت الغربان مع الفئران، وأصبحت تعيش وتتناسل من حاوية واحدة بها كل مكونات الحياة، وعشنا املعاناة. مــن اشــتــرى أرضـــًا فــي مخطط وأمــامــه حـديـقـة أصبح وأمسى فوجدها مملوكة لغيره بأسوار عالية وشوارع مـغـلـقـة. خـلـق الــلــه الــبــحــار لـتـكـون عــامــة لـكـل الــنــاس، ولــكــن بعض أمــنــاء مـديـنـة جــدة جـعـلـوا الـبـحـر حـقـًا معلومًا للبعض، محرومًا منه اآلخـرون، وحتى الشواطئ املفتوحة على قلتها سلطوا عليها املجاري واألوساخ ترعى بني أرجل زائريها الفئران والحشرات. لن ينسى سكان جدة ما فعله أحد أمنائها عندما ابتدع بحيرة أسماها (املسك) لتكون وباال على جدة وأهلها.. تفوح روائحها.. تخرج منها األمراض واألوبئة، ويجد فيها الناموس والضنك مبتغاه. األمني القادم لجدة ال بد أن يكون محبًا وعاشقًا لهذ املدينة يكون أستاذ إدارة وفـن وهندسة، يدخل إلـى أعماقها التاريخية ينبش فـي حـواريـهـا، يــدرس تفاصيلها يصون قديمها يتعب مـن أجلها يسهر على راحتها يبحث عن معاناة ساكنيها مع الشوارع املكسرة والــحــفــر املـفـتـوحـة واملــطــبــات الـقـاسـيـة وأغــطــيــة الــصــرف الصحي املرتفعة عن مستوى الشارع أو دون مستواه، يزيل مشاهد الفوضى وكـــآبـــة املــنــظــر الــــذي يــشــوه وجــــه املــديــنــة مــثــل حـــاويـــات القمامة واألرصفة املكسرة واملخلوع باطها وأعمدة اإلنارة التي ال تعمل، أو تعمل بـالـنـهـار وتـظـلـم عـنـدمـا يختلط الــضــوء بـالـظـام. أراض بـيـضـاء مـتـروكـة لـلـزمـان ال عـمـرهـا أصـحـابـهـا ولــم يــســوروهــا، بل تركوها لتصبح مرمى للنفايات واملخلفات، جسور صامتة مظلمة تجمع تحتها األوساخ والفوضى واإلهمال، ال جمال فيها. شوارع ترصف بالليل وتحفر بالنهار وتهبط بعد أيام، فالرقابة معدومة عـلـى شــركــات املـــقـــاوالت، ومــراقــبــو األمــانــة فــي ســبــات. عشوائيات تتزايد مع األيام من شمال املدينة لجنوبها، ملفات كثيرة مسكوت عنها، حتى رؤساء البلديات الفرعية في غياب تام عن املشهد وما يدور في مناطقهم فهم إما في األمانة أو في جولة تفقدية ال نرى بعدها طحينًا. لـــم يــضــع بــعــض أمـــنـــاء جـــدة لــعــمــاراتــهــا وشوارعها وأرصفتها وحدائقها وأسواقها نظامًا خاصًا وقوانني مكتوبة ومواصفات ثابتة، فأصبح «كل من إيده إله»، واجهات مشوهة ألوانها متباينة وأشكالها متنافرة حدائق مظلمة مهملة تنام على أرضها قطط الشوارع والحشرات ليس لها من اسمها نصيب. أحـد األمناء تـفـتـق ذهــنــه فــــزرع أرصــفــة جـــدة وشــوارعــهــا بشجرة تــدعــى (بـــزرومـــيـــا) وتـــركـــت دون رعـــايـــة حــتــى طالت أطــرافــهــا وتـمـكـنـت جــذورهــا مــن األرصــفــة والشوارع فهدمتها وخلعت باطها وشوهت منظرها فأصبحت معاقة، شجرة تنفض أوراقها على مدار العام أوساخًا تسبب أمراضًا تؤثر على صحة اإلنسان تطلق غازات سـامـة وتنشط الـخـايـا السرطانية بالجسم وتسبب حساسية في الشعب الهوائية، ورغـم التحذيرات فإن األمانة وكأنها ليست من نسيج سكان جدة وال يهمها أمــرهــا، هـنـاك أشـجـار جميلة مناسبة يمكن زراعتها وتميز جـدة كمدينة ساحلية، مــارس بعض أمنائها التطنيش أو الردود الباهتة املغالطة للواقع املليئة بوعود عرقوب. تعبت جدة وشاخت، تحتاج إلى أمني على قدر من املسؤولية، أمني ال يعطي ظهره لجدة وينظر من مكتبه الزجاجي العالي إلى زرقة البحر وجماله، ويقول: هذه جدة، ويطنش ما دون ذلك من مآسي املدينة ومعاناتها املؤملة. أؤيد رئيس التحرير األستاذ جميل الذيابي عندما كتب (عن حاجة جدة غير إلى أمني غير)، ال بد أن يفهم كل مسؤول تحمل األمانة أننا نعيش رؤيــة متكاملة، يجب أن نكون على مستواها، وال تقاعس فيها ألحد.