Okaz

عزاء وخراب ديار

-

فـي أمسية اشتد هجيرها وحمي لهيبها زادتها حرارة األرض وما ينفث به اإلسفلت حرًا على حر، اجتمعنا بجوار رصيف جـداوي ال معالم له على أحد الشوارع اإلسفلتية املتربة نؤدي واجب العزاء في فقد والد صديق عزيز علينا. أدينا صالة املغرب جماعة ونحن ننز عرقًا نحس به ينساب من بني مساماتنا، يبلل مالبسنا يلصقها بأجسادنا، اصطف املعزون في صف طويل األكبر فاألكبر واألقرب فاألقرب، جلست بالقرب من صف العزاء ليراني صديقي مواسيًا ومشاركًا وأحصل على نسمة هواء عابرة. يأتيني صوت املقرئ من حولي يمأل املكان يرتل القرآن ترتيال ال تخشع له القلوب وال تفقهه األفهام في مخالفة صريحة ألمر الله، «وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا»، وإنما تطغى أصوات الجالسني حولي والالهني في أحـــوال الـدنـيـا مــن بـيـع وشـــراء وســفــر وتــالهــي األيام يــتــبــا­دلــون الــنــكــ­ات ومــقــاطـ­ـع الـــجـــو­ال، وســـرد لتاريخ املرحوم بخيره وشـره وعمره في ما أفناه وكم خلف من أموال وعقار وكيف جمعها وتركها وراح. أراقب املعزين وهم في طريقهم سراعًا إلى صف العزاء لتعزية أهــل املــيــت، وكـأنـهـم يـــؤدون واجــبــًا مفروضا عليهم أداؤه، يمر املعزون أمامي، أسمع أول الواقفني فــي صــف الــعــزاء مــن أهــل املـيـت يـقـول للمعزي أمامه وهـــو يــدعــو ملـيـتـهـم ويــتــرحـ­ـم عــلــيــه، اتــفــضــ­ل اجلس للعشاء ال تـروح (عشانا بــدري)، ليكررها الـذي يليه، ثم الـذي بعده يحدث هذا على مدى ثالث ليال وكأن املناسبة دعــوة لتناول العشاء وليس لتقديم واجب الـــعـــز­اء، ويــتــكــ­رر املـشـهـد حـتـى األذان لــصــالة العشاء موعد انتهاء العزاء، وليبدأ بعدها أكل العشاء للرجال والنساء بشكل مبالغ فيه يحكي حكاية (بطر النعمة) ملــدة ثــالثــة أيـــام بلياليها مــا بــني غـــداء وعــشــاء وبـقـائـمـ­ة طــعــام ال تتكرر. من مظاهر هـذه الليالي الثالث، مفارش مبثوثة وكراسي مرصوصة وملبات ممدودة وشاه وقهوة وتمرة وماء وعصير يدور بني الحضور وزيادة في البطر واملباهاة عند البعض أصبح العزاء استعراضا للبوفيه ذي الخمس نجوم من لحوم وأسماك وكافيار وخضار وأركـان لألكل الصيني والياباني والهندي وركن خاص (للتعتيمة) من حلويات حجازية وجنب وزيتون ومربى وموالح وتورتات وآيس كريم بكل النكهات في إسراف وتبذير منهي عنه. نجلس أرضـًا لنأكل في جو خانق ومــراوح الهواء ترسل هواءها الحار مخلوطا برائحة الطعام وعرق األجساد وعـوادم السيارات، ورائحة حاوية زبالة اسود لونها مركونة بطوبة ترسل روائحها علينا مخلوطة بمياه آسنة من «وايت» شفط تحت عمارة ال معالم لها يجمع فـضـالت الـسـكـان، وعمالة واقـفـة حـائـرة تنتظر دورها لتأكل. فـي طريق عـودتـي اتصلت بالدكتور عـدنـان اليافي العالم بآثار األولني وعاداتهم وتقاليدهم، وسألته ما األصل في عزاء الشوارع وملاذا ال يكون داخل البيوت كباقي خلق الله؟ فقال: هكذا أخبرني بعض كبار السن من مرويات األجــداد، أن هناك رجـال ثريا توفي عن زوجتني وعـدد من األوالد وكـان له بيتان في الحارة اختلفوا أبـنـاء الزوجتني أيــن يقام الــعــزاء؟ هـل يقام فـي بيت األولــى أم في بيت الزوجة الثانية؟ فكل طرف يرى أنه األحق بإقامة عزاء والده في بيت والدته، وتطور األمر وكاد يحدث ما ال تحمد عــقــبــا­ه، وتــدخــل كــبــار الـــحـــا­رة، يـــوم أن كـــان للحارة رجال لهم شنة ورنة وكلمة مسموعة ال تنزل األرض، ووضعوا حال بأن يقام العزاء في الشارع بني البيتني فذهبت عــادة حتى الــيــوم. أمــا ملــاذا ثـالثـة أيـــام؟ فهي ترتكز على عدد من املرويات، وإن كان الراجح أن مدة الـعـزاء يـوم واحــد ألنـه ليس في املسألة نص صريح، ولــيــس هــنــاك مــا يــحــدد وقـتـهـا بــني املــغــرب والعشاء فكلها اجتهادات. إن مايحدث فـي أيــام الــعــزاء صــورة ال تتفق والواقع الـــذي نعيشه الــيــوم ونــكــاد نــكــون مـنـفـرديـ­ن بـهـا عن غيرنا، حتى أصبح الـعـزاء خـرابـا للبيوت وتكاليف تــرهــق أســــرة املــيــت وتــســبــ­ب لــهــم الــكــثــ­يــر مـــن العنت واإلحراج، تحت يدي فواتير أليام عزاء صادمة وفيها أرقام مالية خيالية، هذا غير ما يتم توزيعه من كتب أدعــيــة غير صحيحة ومـسـابـح ومـصـاحـف داخـــل أكــيــاس معطرة تنتهي فــي غـرفـة الـسـائـق! مـمـا يـزيـد الـطـني بـلـة مــا ذكـــره األستاذ مشعل السديري في سرده لذكرياته مع (مزينة تجميل) عن مراسم الجنائز ومناسبات العزاءات وما تفعله املرأة في وجهها وشعرها من مكياج وزينة قبل ذهابها للعزاء، هذه حقيقة بدأنا نتلمسها وكلها ممارسات خاطئة وقلة إحساس باملسؤولية وتقليد أعمى، ولعل قادم األيام تعلم الناس األدب!!. * كاتب سعودي

 ??  ?? nyamanie@hotmail.com نجيب عصام يماني *
nyamanie@hotmail.com نجيب عصام يماني *

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia