Okaz

دميوقراطية العالم اآلخر !

- د. طالل صالح بنان * talalbanna­n@icloud.com

هــــنــــ­اك تــــوجـــ­ـه، عـــلـــى مـــســـتـ­ــوى مجتمعات العالم، تجاه التحول الديموقراط­ي. إال أنه ال يمكن القول، بثقة علمية رصينة، أن تطور الديموقراط­ية في مختلف مجتمعات عالم اليوم، تأخذ مسارًا واحدًا.. أو أنها تعكس تجانسًا متقاربًا بني حركة الديموقراط­ية وقيمها. الديموقراط­ية، ال تعدو كونها أداة ووسيلة لتحقيق غاية نبيلة تتجسد فيها قيمة حركة التاريخ ومنتهاها (تحقيق السيادة لــإلرادة العامة لتعكس الشرعية السياسية واألخالقية ألنظمة الحكم املختلفة). املالحظ، أيضًا، في هذا السباق املحموم بني مجتمعات العالم، صــوب الـديـمـوق­ـراطـيـة، أن هـنـاك غلبة لحركة الديموقراط­ية وطــقــوسـ­ـهــا، عــلــى قــيــمــه­ــا وغــايــات­ــهــا الــنــبــ­يــلــة. فـــي كــثــيــر من مجتمعات الـعـالـم الـثـالـث، بــل وحـتـى الـثـانـي، بعد التخلص مــن تجربة األنـظـمـة الشيوعية، بانهيار االتــحــا­د السوفيتي واملعسكر االشتراكي، يالحظ تركيزًا على طقوس الديموقراط­ية الـسـلـوكـ­يـة، بـعـيـدًا عــن االلــتــز­ام بقيمها وغـايـاتـه­ـا فــي توكيد سيادة الشعوب. األسبوع املاضي، جرت انتخابات نيابية ومحلية في باكستان أتـت بنخبة سياسية جـديـدة تحكم الـبـالد، بعد عشر سنوات متواصلة من احتكار حزب الجماعة اإلسالمية وحزب الشعب للحياة السياسية املدنية. في باكستان: خالل فترات التجربة الديموقراط­ية املتقطعة، في العقود الثالثة األخيرة، بل ومنذ استقالل باكستان، تدخل العسكر في حكم الـبـالد.. ويبدو أن طموحهم للعودة للحكم لم يخُب تمامًا. قبل ذلك بشهر 26( يـونـيـو املــاضــي)، أجــريــت انـتـخـابـ­ات رئـاسـيـة وتشريعية في تــركــيــ­ا، تـحـولـت الــبــالد بـمـوجـبـه­ـا مــن الــنــظــ­ام الــبــرمل­ــانــي إلى الرئاسي. 10 مايو املاضي أجريت انتخابات عامة في ماليزيا، أتـت بنخبة سياسية، كانت قد تركت السلطة باختيارها، ثم عــادت إليها بـقـرار منها، بتشكيلة حزبية مختلفة تمامًا عن نسختها التقليدية السابقة. ثالثة نماذج للتحول الديموقراط­ي، في مجتمعات إسالمية، تـعـكـس تــجــربــ­ة سـيـاسـيـة واجــتــمـ­ـاعــيــة وثــقــافـ­ـيــة مختلفة عن األخــرى.. وإن عكست إرهاصات للتحول الديموقراط­ي بعيدًا عن تجربتها غير الديموقراط­ية السابقة، التي تخللت بعضها أشـــكـــا­ل مـــن حــكــم الــعــســ­كــر، بـخـلـفـيـ­تـه الــشــمــ­ولــيــة السلطوية. كما عكست الحالة التقليدية في غلبة الجانب السلوكي في شكليات الديموقراط­ية وطقوسها، على الجانب القيمي لها، األكثر أهمية، وإن كان بدرجات متفاوتة. التجربة املاليزية تعكس وله مجتمعات جنوب الكرة األرضية، بالزعامات املتفردة، التي تتمتع بجاذبية سياسية (كارزماتية)، تعكس الجانب الثقافي، في هذه الشعوب، كمجتمعات أبوية تنظر بكثير من التبجيل واالحترام، وحتى الثقة، في نخبها السياسية التقليدية، مع القليل من الثقة في قدرتها (الجماعية) لتحمل مسؤولية التحول الديموقراط­ي. الغريب في التجربة املاليزية أنها لم تكتف بعودة نخب السلطة التقليدية للحكم، بـل أتـت معها باملعارضة التقليدية لها! عــودة التحالف بني مـهـاتـيـر مـحـمـد وأنــــور إبــراهــي­ــم (تــحــالــ­ف جـبـهـة األمـــــل)، وإن فرضته الرغبة في هزيمة نجيب عبدالرزاق وحزبه (ائتالف الجبهة الـوطـنـيـ­ة)، إال أن هــذا الـسـلـوك مـن املجتمع املاليزي، بعودة السلطة واملعارضة التقليدية للحكم من جديد، يعكس هذا التردد املتأصل في الالوعي لدى الشعب املاليزي، بالخوف من السير (مجتمعيًا) في الطريق الديموقراط­ي، لبلوغ غاية توكيد سيادته السياسية واألخالقية. فــي تـركـيـا، مــن نـاحـيـة أخــــرى، عكست االنــتــخ­ــابــات الرئاسية والبرملاني­ة، الثقافة املتأصلة في ضمير الشعب التركي، التي لم تغب ملدة قرن من الزمان من الحكم العلماني. العودة للجذور «االمــبــر­اطــوريــة» للحقبة الـعـثـمـا­نـيـة، لـيـس بـاملـجـمـ­ل، تطور يعكس نزعة دينية مناوئة لتجربة الجمهورية «األتاتوركي­ة» العلمانية األولى. النظام الرئاسي الجديد، هو في حقيقة األمر، خليط بني النظام البرملاني والرئاسي، يضمن سيطرة مؤسسة الرئاسة على الحكم، مع االحتفاظ بشكل ما بصيغة الفصل بني السلطات. كما أن النظام الرئاسي الجديد في أنقرة، أبقى على النظام البرملاني، في حدود السلطة التشريعية (البرملان)، بعيدًا عن رقابة حقيقية وفاعلة على السلطة التنفيذية... مع نفوذ كبير، ملؤسسة الرئاسة، على السلطة القضائية. هذا مع غـيـاب الـعـامـل الـجـغـراف­ـي عــن الــبــرمل­ــان بتمثيل أقـالـيـم البالد املختلفة جغرافيًا فـيـه، كما هـو فـي حــال تجربة الكونغرس األمريكي، على سبيل املثال. وإن كــــــان «شــــبــــ­ح» الـــعـــس­ـــكـــر أضــــحـــ­ـى بـــعـــيـ­ــدًا عــــن التجربة الــديــمـ­ـوقــراطــ­يــة، فـــي تــركــيــ­ا، إال أن الــعــســ­كــر لـــم يــغــيــب­ــوا عن املشهد السياسي في باكستان، بعد. لعل نتيجة االنتخابات الـبـاكـسـ­تـانـيـة األخـــيــ­ـرة، كــانــت فـــي حـقـيـقـة األمــــر حـــال وسطًا لــلــحــؤ­ول دون عـــــودة الــعــســ­كــر لــلــحــك­ــم، الـــعـــد­و األول لحزب الجماعة اإلسالمية وحزب الشعب الجمهوري، وربما التحول الديموقراط­ي. االتهامات بتزوير االنتخابات.. وعدم املوافقة على تمديد فترة يــوم االنـتـخـا­بـات، ومـزاعـم مساندة العسكر «الخفية» لحزب عمران خان (حركة اإلنصاف)، كلها مؤشرات تـدل على تعثر املسيرة الديموقراط­ية في باكستان.. أو على األقل تخلفها نسبيًا عن تلك التي تتطور في ماليزيا وتركيا. مشكلة الديموقراط­ية في مجتمعات الجنوب، غلبة مظاهرها الشكلية، على قيمها والغاية النهائية لها. أمام شعوب العالم اآلخر، خارج مجتمعات الديموقراط­يات التقليدية العريقة في أوروبــا الغربية وأمريكا الشمالية مع اليابان، مشوار طويل لــتــوازن مـسـيـرة الـديـمـوق­ـراطـيـة فـيـهـا، لـتـأكـيـد ســيــادة اإلرادة الشعبية كأهم وأول مصدر لشرعية أنظمتها السياسية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia