عن احلروب األهلية

تخلق الــحــروب األهـلـيـة توجهاتها املتعرجة بــدون منطق مستقر ومـن غير مسار، بل إنها عـــادة - إذا طــال أمــدهــا - تسير فــي منحنيات صعودا وهبوطا، إلى حن اقتناع أطرافها بأن القوة وحدها لن تتمكن من وقف املعارك أو الوصول إلى حالة من اإلنهاك املادي واملعنوي، ما سيجبرها على البحث عن حلول تخرج الوضع من حال املراوحة والجمود، وإمـا بقدرة طرف على حسمها بحسب خياراته والنتائج املرجوة. تشكل الحروب األهلية الطويلة مصالح تصبح معها القيادات من كل األطـراف منشغلة بالعمل على استمرارها ليتواصل معه جني املكاسب املادية، دون التفات إلى اآلثار اإلنسانية املباشرة واملجتمعية التي تعصف بالنسيج الوطني على كل املستويات، وال يمكن التنبؤ بنتائجها النهائية وفي أغلب األحيان تنهار كافة املؤسسات ويصبح من الصعب إعادتها ملمارسة نشاطها إال بكلفة مادية باهظة ال تقوى أغلب الدول عـلـى تحملها، وهــكــذا تمتد حـــاالت الــصــراع عـلـى استمرار النفوذ وجمع الثروة على حساب التوصل إلى تسوية تضع حدا للنزيف. يقول تـاريـخ الـحـروب األهلية إن الحسم العسكري لصالح املـتـمـرديـن يـسـاهـم فــي إنــجــاز ســالم أســــرع، ولـكـنـه ال يعني ســالمــا دائــمــا، والـسـبـب أن املـتـمـرديـن يستطيعون التحكم في املواطنن في املناطق التي تخضع لهم وكذا احتواء أي تحركات ضد حكومتهم، لكنهم ال يمكن أن يحظوا بالرضا واالعـتـراف الكاملن داخليا وخارجيا، وفي املجمل فإن ما يـتـرتـب عـلـى تــوقــف الــحــرب األهـلـيـة يعتمد عـلـى القيادات وقدرتها على إدارة املراحل التالية لنهاياتها وكذا امتالكها لخيال سياسي وتفكير نـاضـج ورؤيـــة وطنية تمكنها من استعادة السلم االجتماعي أوال وتثبيت املواطنة املتساوية بكافة حقوقها السياسية واملدنية، ولعل األهم هو تأسيس النظام القضائي الذي يكفل حقوق الناس بكافة انتماء اتهم املذهبية. إن أصــعــب مــا يـمـكـن تــجــاوزه فــي حـــاالت الــحــروب األهلية هـو الــدمــار النفسي الــذي يلحق باملتضررين منها وحجم الـخـسـائـر االقـتـصـاديـة الـتـي تلحق بـالـنـاس واملــنــشــآت، وال تستطيع أي دولـــة مــحــدودة املــــوارد تــــدارك األمـــر بالسرعة املطلوبة التي تساعدها على استعادة سيطرتها وال تقوى على تلبية احتياجات املواطنن، وهو ما يجعل من توقف العمليات العسكرية مرحلة هي األكثر حرجا تواجهها أي حكومة. يستدعي هذا أن يقوم املجتمع الدولي باإلسهام في عملية بناء سريعة وضخ أموال طائلة تنهض بعجلة الحياة املتوقفة مرة أخرى. يظل وقود الحرب األهلية في كل األحوال هو املواطن الذي ال تعنيه مباشرة أسباب الصراع وال يهمه إال توقفها بما يعيد له أمال في بدء يوم جديد بعيدا عن أصـوات الدمار والقتل والـنـزيـف، ولعل مـا حــدث فـي لبنان درس يجب استيعابه، إذ إنه بعد سنوات الحرب الطويلة ورغم انتهائها منذ أمد طويل إال أن آثارها االقتصادية واالجتماعية والفرز الطائفي كلها شواهد ثابتة على مــرارات الحرب األهلية التي تشكل مساراتها الـذاتـيـة الـتـي تــؤدي إلــى ثــراء أشـخـاص بعينهم، بينما تعيش الغالبية في حالة اقتصادية صعبة.